تعتبر قضية العلم (بفتح العين واللام) الفكرة الأساسية للحوثية.. والمقصود بالعَلم الشخص الملهم، مصدر المعرفة والتوجيه، القائد، الحاكم، على مستوى الجماعة وعلى مستوى المجتمع كله. هذا هو مفهوم العلم في الفهم الحوثي، مفهوم شامل من حيث أن الحوثية قد حملته مدلولا سياسيا، يرتبط بالنظام السياسي الخاص الذي تكافح من أجله هذه العصابة، وهو نظام الولاية الذي لا تكاد تخلو منه محاضرة من محاضرات عبد الملك الحوثي، الزعيم الحالي للعصابة.

 

كان أخوه حسين الحوثي يروج بين الأتباع أن هذا العَلم - وجمعه أعلام - يختاره الله وحده، ولا دخل للشعب في اختياره أو انتخابه، لأننا لو تركنا للشعب حرية الانتخاب ستكون النتيجة كارثية، وذلك لأن الديمقراطية تساوي بين المواطنين، ولو ترك أمر اختيار الحاكم للشعب قد ينتخب يهودياً، وبعبارة حسين: "وما تدري إلا وقد صار إمامك يهودي". فالديمقراطية إذاً لا تصلح لنا، وهي تتعارض مع الحقيقة الإلهية التي تقرر أن العلم قد اختاره الله للشعب قبل وجود هذا الشعب، وعلى ذلك فليس أمام الشعب أو الناس أي خيار آخر سوى القبول به والتسليم له.. هذا الفهم الذي أشاعه الرجل مبني على أساس اعتقاده بالاصطفاء الإلهي، وهذا الاصطفاء يعني أن هناك فئة خلقها الله على عينه، وزودها بخصائص فريدة، يأتي منها الرجال الأعلام! وهذه الفئة هي آل البيت، وفي اليمن هو البيت الحوثي تحديدا.

 

لقد عنى حسين الحوثي مؤسس العصابة إياها، عناية خاصة بهذه القضية، ورسخها في أذهان الأتباع من خلال المحاضرات التي كان يلقيها عليهم خلال السنوات 2001 – 2003، وهي المحاضرات المدونة في الملازم المعروفة (كما في الملازم الثلاث: مسؤولية أهل البيت.. ومسؤولية طلاب العلوم الدينية.. والثقافة القرآنية)، والتي تدرس في منتديات ومراكز ومعاهد العصابة، بل أنها صارت مادة تعليمية وحيدة لغير الحوثيين الذين يتم إخضاعهم للدورات التثقيفية التي تقيمها العصابة في مختلف مؤسسات الدولة اليوم لكي يغدو حوثيين، بما في ذلك منسوبي الجيش والشرطة.

 

مثل موسوي

قبل أن يقرر الحوثي أنه العلم، وأن أسرته أعلام، بحكم أن آل البيت هم الأعلام المصطفين الأخيار! مهد لذلك بتقديم مثال من التاريخ اليهودي، ونشير هنا أن ليس للحوثي محاضرة واحدة لا تتضمن التنويه بتجربة من التجارب اليهودية المختلفة.. نقول مهد الرجل بمثل يهودي رأى إنه يدل على أن الأعلام قد تم اصطفاؤهم منذ القدم نتيجة صفات مخصوصة مودعة فيهم. فعنده - مثلا- أن موسى تم اختياره من الله لأنه سليل الآباء الأول لشعب الله المختار.. الله اصطفاه من بين اليهود اصطفاء لذلك السبب، وبهذا الاصطفاء صار علماً يهتدي به بنو إسرائيل، يقودهم فينقادون له، ويحكمهم فيسلمون بحكمه.. ليس لأن موسى كان مجرد إنسان مجرب مؤهل للنبوة وللقيادة التي جعلت اليهود في تلك الظروف التاريخية يسيرون خلفه من مصر متوجها نحو أرض الميعاد.. بل أن إرادة الله اختارت موسى دون غيره لأنه موسى بعينه، لأنه من نسل نقي، ولهذا جعله الله ولياً وأعطاه الحكمة قبل أن يمنحه النبوة، ثم اختصته الإرادة الإلهية لقيادة بني إسرائيل، وأحاطته بلوازم الغلبة، التي لا علاقة لها بظروف سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية، ولا أي عِلم من علوم ذلك العصر المزدهر بالسحر والسحرة، ولا ولا..العصا لم تلتهم سحر السحار، ولم تفجر الماء من الحجر، إلا لأن الممسك بها كان سليل تلك البيت.. وبالطريقة نفسها يفسر الحوثي ولاية الإمام علي، فقد اختاره الله لأنه من نسل هاشم ليس غير، الله اصطفى علياً الهاشمي ليكون خليفة (علماً للأمة) بعد الرسول محمد بن عبد الله الهاشمي، ومن هذا النسل الهاشمي لا بد أن يكون الأعلام الذين تهتدي بهم الأمة اليمنية، ويحكمونها فتنقاد لهم.. وعلى الرغم من أن ظاهرة الاصطفاء كانت لصيقة ملابسات التاريخ القديم، في مرحلة الطفولة العقلية للبشرية، إلا أن الحوثي يستحضرها من براثن التاريخ لينزلها على واقع الناس اليوم، وليقررها للأتباع عقيدة سياسية، هي أن آل البيت الهاشمي اليوم اصطفاهم الله لهذا الشعب.. بسبب الاصطفاء الإلهي، توجب أن يكونوا هم الأعلام بأمر الله، هم الهداة، هم القادة، هم الذين اختارهم الله لكي يحكموا الأمة اليمنية.. وهكذا يصبح بدر الدين الحوثي علماً، وابنه حسين علماً، وعبد الملك علماً، لأنهم من نسل مخصوص، الله اصطفاهم واختارهم ليكونوا هداة، قادة، حكاماً، وواجب الأمة اليمنية تولي آل البيت، والولاية دين!

 

الحوثي العلم.. مصدر التوجيه

وما دام الرجل قد قدم أهله إعلاما، وقدم نفسه لاتباعه بصفته علما من تلك الأعلام التي اختارتها العناية الإلهية، فأن هذا العلم الهادي سيصبح المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة، والتوجيه الهادف، وما على الآخرين إلا الإنصات له وتصديقه والعمل بموجب الهداية الإلهية التي ينطق بلسانها في هذا الزمان، خاصة وأن أعلام الزيدية وبعض أعلام آل البيت - كما قال- قد صار لكل واحد منهم أكثر من أريل ( أي جهاز استقبال)، يتلقون الضلال والمعارف الضالة من هنا ومن هناك، فتعددت آراؤهم، وتفرقت رؤاهم، ولم يتفقوا على كلمة، وبدلا من أن يثوروا ويتحركوا ويحركوا، سكنوا.

 

حرص الحوثي من البداية على تعطيل عقول أتباعه، جعلهم يغلقون عقولهم، فلا يفتحونها إلا لصوته.. يقول: أنت تقول نفتح هذه القناة وهذه القناة وتلك، لنسمع من هنا ومن هنا، وننفتح على كذا، ونسمع من فلان، ونسير عند ذاك، ونرجع إلى هذا، بدعوى تطوير معارفك، وهذا هو الذي عانينا منه نحن الزيدية، نحن آل البيت، هذا الذي نعانيه من العلماء وطلاب العلم والعاملين في المنتدى (منتدى الشباب المؤمن)، فتعالوا إلى هذا الديوان، نجتمع ونخزن، ونتكلم ونستمع (وكان يقصد الاجتماع في ديوان المنتدى، والاستماع إلى محاضراته). ثم يسأل: هل تدرون ما معنى الفتنة التي وردت في الآثار النبوية؟ ويجيب: المراد بها هذا الانفتاح، الفتنة مراد بها تعدد مصادر المعرفة.. فهذا الزمن بكله، هذه المرحلة بكلها التي نحن فيها هي نفسها ما سماه الرسول فتن كالليل المظلم يمسي المرء مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا.. هذه الفتن التي كالليل المظلم ليس مقصود بها كم قتل وقع هنا، وكم دمار حصل هناك؟ ليس هذا هو المقصود بالفتن، وليست خطورة الفتن في ما تحدثه من قتل ودمار، بل أن الرسول كان يقصد بالفتن التضليل الرهيب والالتباس في الأمور التي نعاني منه، الرسول كان يقصد هذه الفتن التي تمثل خطورة على أمته. ثم طرح لأتباعه الحل، وهو أن يستوعبوا ما يقوله هو وحده بوصفه العلم، وقوله حقائق يجب أن يطلبوا غيرها. يقول: المخرج من ذلك ألا تسعى لتطوير معلوماتك، قبل أن تسلك طريقا واحدة، قبل أن تثقف نفسك أولا من قناة واحدة، لتصبح لديك ثوابت صحيحة، رؤية صحيحة، مقاييس صحيحة، معايير صحيحة، وبعد أن تنهل من هذه القناة الواحدة، سوف تعرف كم هي الكتب والمصادر الأخرى ضالة، وستعرف كم فيها ما يشهد بصحة ما أصبحت عليه.. ولا يجوز لكم أن تتثقفوا بالمناهج الدراسية، خذوا منها ما فيها من آيات القرآن فقط، لا تأخذوا من هذه المناهج المدرسية لا تاريخ ولا عقائد ولا فقه ولا شيء آخر، لا تشروا كتبا من السوق، لا تنصتوا لأي شخص يتكلم في مسجد أو في شريط أو أو.. خذ من قناة واحدة، وحينها فقط لن تكون عرضة للضلال.. أما هي هذه القناة التي يجب أن نعطيها أهمية كبرى أولا؟ لقد عرفناها.. إنها محاضرات حسين بدر الدين الحوثي.

 

موسى بلا ناموس

مرة ثانية نضبط حسين الحوثي في حالة تربص بالتاريخ اليهودي، ولكن الهدف هذه المرة مختلف.. الهدف تزويد الجماعة بجرعة فكرية للتحصين ضد كل سلوك سوي، وضد المشاعر الإيجابية، والمزود هو حسين، ومن بعده ملازمه. قال لهم: انظروا، لقد رأى موسى رجلين يقتتلان: أحدهما مستضعف من بني إسرائيل، والثاني من الفئة القبطية المستكبرة.. فماذا فعل موسى؟ هجم على القبطي فقتله.. وماذا كان شعوره؟ لم يخف، لم يبحث عن مبررات شرعية لفعلته، لم يندم.. فما كانت المكافئة؟ كافأه الله، بأن جعله وليا من أوليائه قبل أن يؤتيه النبوة!

 

وبعد أن بقدم لطلاب المعاهد والمراكز التعليمية - الذي كان يحاضرهم- تلك الصورة المحرفة عن سلوك النبي موسى، ضاربا عرض الحائط بنصوص قرآنية عن تلك الواقعة التي أصبح موسى بعدها خائفا! حرص الحوثي أن يقدم الصورة - التي شكلها بتفكيره المنحرف- مثالا يحتذي به مريدوه، وسلك مسلكا يعودهم فيه على التمرد على كل شيء، إلا أن يكون هذا الشيء حسينا واضرابه المصطفين!

 

ومرة ثالثة، لاحظوا كيف كان يتعمد تشويه الحقائق الكبيرة ليضع الزيف المزخرف مكانها، يقول: السائد عندنا أن القرآن يجعل الإنسان طيبا، يجعله يصلي ويصوم، ووو، ولا يتدخل في شيء، فإذا فهمتم القرآن هكذا، فأنتم لم تتعاملون معه بإجلال، أنتم لا تنظروا إليه نظرة صحيحة، أنتم تقدمونه على أنه للقضايا الصغيرة: طيبة، وصلاة، وصوم وحج، وحلال وحرام- استقامة يعني- وماعدا ذلك هو عاجز، لا يمتلك رؤية للقضايا الكبيرة.. أيضا دعوكم من تبرير طلب العلم هذا التبرير، أن الإنسان يطلب العلم ليعرف ما له وما عليه، ليتعلم عبادات وصلاة وحلال وحرام.. لا، ليس من أجل هذا يطلب العلم، لا يطلب الإنسان العلم لكي يعرف ما له وما عليه، وإنما لكي يتحرك، يثور، يتمرد، واثقا بالله - كما في الصورة التي قدمها عن موسى- يتمرد، يثور، يتحرك حتى لو تصادمت حركته مع السنن الكونية والقواعد الإنسانية المرعية.. وبحسب تعبيره: تحرك حتى لو كنت ترى الظروف غير مواتية، وترى كل ما حولك يسير عكس اتجاهك، حتى لو كان موقفك غريبا، ومنطقك ممقوتا، حتى لو كل من حولك بعيد عنك، حتى لو ترى نفسك ضعيفا، لا تعمل حسابا للدولة ولا لأمريكا، لا تضع احتمالات ولا تقيد نفسك بأي قيد.

 

ونتيجة ذلك التوجيه ترى أتباع الجماعة، وفي مقدمتهم الذين يقاتلون لمصلحتها منقادين لثقافة الخرافات حاملة الاصطفائية، دون نقاش ودون قبول أي رأي آخر، ويتولى رجال العصابة تزيين هذا التصلب العقلي والنفسي، بوصفه دلالة على جرعة إيمانية زائدة فيهم وهبها لهم الرحمن الذي اصطفى آل البيت. وينشرون هذه الدعاية بين بسطاء الناس، حتى أن بعضا منهم يستجيبون لهذه الشائعة، ويتحدثون عن استسهال رجال العصابة للموت.. وفي حقيقة الأمر أن هؤلاء منومون تنويما ثقافيا، أخضعوا باستمرار ولمدة طويلة لتوجيه ديني مغشوش من ذلك الضرب الذي أشرنا إليه، فتحولوا إلى ضحايا.. على أن هؤلاء أنفسهم يظهرون لنا أنهم يفعلون ذلك من أجل "سيدي حسين"، و"كما يأمر سيدي عبد الملك"! فهل هذا ينم عن إيمان ديني سليم أم عن أدمغة ضربها التوجيه الحوثي بالخبل؟ وأي عاقل هذا الذي يعتبر أن نظام "الولاية" برئاسة سيدي حسين أوسيدي عبد الملك فضية نبيلة تستحق أن يضحي بروحه من أجلها؟ ومن باب أولى هل هي قضية واقعية في هذا العصر؟ إنهم ضحايا الثقافة التي وقفنا على طرف منها في السطور السابقة.

 

وبقي لنا التنبيه أن خلافنا مع العصابة الحوثية، ورفضنا إنزال الاصطفائية على واقع الناس في هذا العصر، لا يتضمن إنكار حقيقة آل البيت، كما لا يتضمن وضعهم في سلة واحدة، ولا ينطوي على أي خلاف مع الزيدية، وندرك - حسب خبرتنا- أن معظم المثقفين والسياسيين اليمنيين المصنفين زيدية، وأيضا المنحدرين من البيت الهاشمي، غير متصالحين مع الحوثية، ولا يلتقون معها فكريا وسياسيا، ولا يؤيدون سلوكها العدواني.. وبالجملة ليس لدينا مشكلة مع آل البيت ولا مع الزيدية، المشكلة محصورة بيننا وبين العصابة الحوثية للأسباب المختلفة التي نوضحها هنا، وشرحناها في مقالات من قبل وأخرى قد تأتي بعد.

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية