دخلت الأزمة اليمنية منعطف التصعيد الأمريكي-الإيراني مجدداً مع استخدام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حق الفيتو، الأسبوع الماضي، ضد قرار الكونجرس الخاص بإنهاء الدعم الأمريكي لتحالف دعم الشرعية في اليمن، وأكد على ذلك مرة أخرى السفير الأمريكي لدى اليمن ماثيو تولر مضيفاً أن بلاده ستزيد من جهودها في إطار التعاون الأمني مع الحكومة الشرعية من خلال رفع قدرات الأجهزة الأمنية سواء كانت حرس الحدود أو خفر السواحل اليمنية أو الأمن العام.

 

وفي المقابل تتعمد إيران وحليفتها المليشيا الحوثية الانقلابية توظيف الدور الأمريكي في إسناد الشرعية على أنه داعم لاستمرار الحرب بينما تعمل طهران على إحلال السلام، وهو ما يتناقض مع مؤشرات وقرائن التحرك الحوثي ميدانيا لا سيما في الحديدة التي تعد أول ميادين تطبيق مخرجات الاتفاق الذي مر عليه ما يقرب من خمسة أشهر دون إحراز أي تقدم يدلل على جدية المليشيا في التعاطي معه.

 

الموقف الإيراني.. مؤشرات ودلالات

بتغريدة على حسابه بموقع تويتر سارع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى الترحيب باتفاق ستوكهولم الذي تم إبرامه في ديسمبر الماضي بين وفدي الحكومة الشرعية والمليشيا الحوثية المتمردة، وقال ظريف آنذاك إن "إيران ترحب بالاتفاقات المبدئية بين الأطراف اليمنية في ستوكهولم تحت إشراف المبعوث ألأممي، وتدعم بقوة استمرار المباحثات حتى الوصول إلى اتفاقات نهائية حول كل القضايا". كما عقد حينها المتحدث باسم الخارجية بهرام قاسمي مؤتمرا صحفياً قال فيه إن "إيران تعتبر أن الحل النهائي لأزمة اليمن يكمن في وقف الحرب وإراقة الدماء واستمرار الحوار اليمني-اليمني. كما أعرب قاسمي عن أمله في أن "يجري تأهيل ميناء الحديدة وسائر الموانئ والمطارات اليمنية بما فيها مطار صنعاء لاستقبال المساعدات الإنسانية والنشاطات المدنية على وجه السرعة بهدف الحد من الآلام ومعاناة الشعب اليمني".

 

هذا الترحيب الدبلوماسي الإيراني باتفاق ستوكهولم ينطوي على عدة أبعاد كاشفة عن الموقف الإيراني من عملية السلام في اليمن، فبشكل عام تعد الخبرة الخاصة بالسياسية الخارجية تجاه الصراعات في الإقليم كاشفة عن استراتيجية توزيع الأدوار بين الدبلوماسية والحرس والثوري، أو بين ظريف وقاسم سليماني قائد فيلق القدس، وفي الحالة اليمنية كان الأخير معنيا بإظهار الدعم المباشر للانقلاب الحوثي في اليمن والدعم العسكري غير التقليدي الذي حصلت عليه المليشيا الحوثية منذ ما يزيد على 10 سنوات وليس مع بدء الصراع اليمني الحالي فقط، من خلال أدوات الدعم المتنوعة الخاصة ببناء قدرات المليشيا الحوثية من خبراء في عمليات تدريب عناصر المليشيا على عمليات إطلاق الصواريخ وبناء المنصات الصاروخية وزراعة الألغام الحدودية والبحرية وحتى سلوكيات إدارة حرب العصابات وإدارة المعركة الحالية.

 

كما دعمت طهران بناء قنوات اتصال تفاعلية بين أذرعها الإقليمية في العراق ولبنان وهو ما ظهر من خطاب تأييد حسن نصر الله للمليشيا الحوثية، وأيضا خطاب زعيم مليشيا "كتائب سيد الشهداء" العراقية أبوولاء الولائي الذي أكد في يوليو 2018 أنه رهن إشارة الحوثي، وأبدى كلاهما استعداده إلى الانضمام للحوثي في اليمن.

 

كذلك ركز تصريح قاسمي على "الحوار اليمني-اليمني" وهو ما يفسر نظرة طهران لخريطة الأزمة في اليمن على أنها صراع بين طرفين متكافئين، كما يفسر من جانب آخر مبررات دعم إيران للحوار في السويد باعتباره تسوية بين الطرفين وهو ما يشكل مكسباً تكتيكيا لها على اعتبار أن مشاركة المليشيا الحوثية في الاتفاق يعد بمثابة اعتراف دولي بها كطرف على الساحة الدولية بما يشرعن وضعها السياسي في مقابل الحكومة الشرعية، وهو ما يتجاوز المقررات الدولية لا سيما القرار 2216 الذي يوصف ما قامت به في 21 سبتمبر 2014 بأنه "انقلاب على الشرعية".

 

وفي ضوء هذا المكسب فسرت المليشيا الحوثية اتفاق السويد لصالحها بأنه يتضمن تقاسم الأدوار السياسية والأمنية، وهو ما اتضح لاحقاً من خلال ممارساتها التالية ومن ذلك على سبيل المثال أنها اعتبرت أن المطلوب تنفيذه هو عملية "إعادة انتشار في الحديدة وليس انسحاب مليشياتها من المدينة والميناء".

 

ويتصل ما سبق أيضا بما ذكره قاسمي بشأن "الحديدة" وتركيزه على ضرورة إعادة تأهيل الميناء" على وجه السرعة " - حسب قوله - وذلك بالنظر إلى أن الميناء يعد أحد مجالات الحركة الإيرانية في اليمن منذ مرحلة ما قبل الأزمة وبعد إغلاق المجال الجوي الذي كان أحد مسارات الحركة الإيرانية لدعم المليشيا قبيل إطلاق عملية عاصفة الحزم في مارس 2015، ثم تضاعفت أهميته لدى إيران باعتباره الرافد الأكثر حيوية في إيصال ما تحتاجه من دعم عسكري في السيطرة على صنعاء ومناطق الطوق التي لا تزال تسيطر عليها بقوة السلاح. وبالتالي فإن تلك التصريحات تعد بمثابة تأكيد على ذات النهج الذي سبق وسلكته إيران مع المليشيا الحوثية بعد أقل من خمسة أشهر على الانقلاب على الشرعية، وتحديدا في منتصف مارس 2015، أعلن الرئيس السابق لما يسمى بالمكتب السياسي الأعلى صالح الصماد عن إبرام اتفاق مع طهران يقضي بتوسيع ميناء الحديدة غربي اليمن وتعزيز التعاون في المجال البحري.

 

مرحلة ما بعد الاتفاق.. تصعيد مع القوى الغربية

قرائن الدور الإيراني في مرحلة ما بعد الاتفاق تظل واضحة في التأثير على المليشيا الحوثية وأدائها تجاه الاتفاق وفقا للمحددات المعلن عنها والمشار إليها سابقاً بأن الاتفاق هو اتفاق "تقاسم سيادة"، وهو ما أكدت الحكومة الشرعية في أكثر من مرة على أنه "خلط أوراق"، وبالتالي أكدت المليشيا على هذا المحدد من خلال استمرارها في استخدام الأداة العسكرية في عرقلة الاتفاق، بدأتها بتحركات هجومية على قوات الشرعية خارج نطاق الحديدة وكان الهدف الأول هو العرض العسكري لقوات الشرعية في قاعدة "العند" الجوية في يناير أي بعد نحو أسبوعين من اتفاق ستوكهولم، وباستخدام طائرة دون طيار إيرانية الصنع، ثم أخذت تقترب من الحديدة يوما تلو الآخر مع استمرار التصعيد بالصواريخ الباليستية الإيرانية باتجاه الحدود السعودية، كما تستغل إحكام السيطرة الأمنية على الميناء والتهديد بنسفه حال عدم تلبية شروطها، وهو الأمر الذي أكد عليه باتريك كاميرت رئيس لجنة إعادة الانتشار الأمني في الحديدة السابق في تصريحات صحيفة له مؤخرا مع صحيفة "الفولس كرانت" الهولندية حيث كشف أن المليشيا الحوثية استهدفت مطاحن البحر الأحمر في الحديدة بالقذائف مما أسفر عن احتراقها وتدمير أطنان من الغذاء منها 20% من مخزون الحبوب، ولم يكن ذلك الهجوم الوحيد الذي شنته في الحديدة سواء للمدنيين أو الفريق الحكومي أو حتى بعثة الأمم المتحدة التي حاولت استهدافها أكثر من مرة.

 

ويعد التطور الأحدث في سياق الدور الإيراني في اليمن هو ردود الأفعال تجاه المواقف الدولية المؤيدة للاتفاق والداعمة للحكومة الشرعية، وهو ما ظهر منه على سبيل المثال تعقيب طهران على زيارة وزير الخارجية البريطاني جيرمي هانت إلى اليمن في مارس المنقضي، حيث أبدت الخارجية الإيرانية انزعاجها من الزيارة والتصريحات التي تضمنتها وهو ما ورد في تعقيب قاسمي "اليمن ليس بحاجة إلى مثل هذه الزيارات، وإن كانت الدول راغبة في خفض ووقف هذه الكارثة الإنسانية والمساعدة بحل الأزمة، فعليها أن تستخدم أساليب أخرى وتساعد في كف الهجمات عن اليمن"، ومن الواضح أن الهجوم الإيراني على الزيارة جاء على خلفية تصريح هانت الخاص بضرورة التزام المليشيا الحوثية باستحقاقات اتفاق السويد لا سيما وأن هانت تحديدا هو أحد الشهود على تفاصيل الاتفاق وكواليسه، لكن النقطة الفارقة في هذا الصدد هي ضرب هانت لخطة الحوثي - إيران في الصميم من خلال توضيحه أن عملية إعادة الانتشار وفق خطة الأمم المتحدة تتضمن فقط خفر السواحل التابعة لقوات الأمن المسجلة قبل 2014، أي التابعة للحكومة الشرعية وبالتالي لن يسمح بتشكيل قوة تابعة للمليشيا الحوثية لكى تشارك في عملية إعادة الانتشار، وهو ما كانت تسعى إليه المليشيا حيث قامت فور الاتفاق بتغيير مظهر مليشياتها في الحديدة حتى تظهر بمظهر خفر السواحل وقوات الأمن وبالتالي تشارك في العملية كطرف مواز لقوات الشرعية.

 

كانت المواجهة الثانية التي وضعت إيران في قلب الأزمة اليمنية هي تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الذي أكد على دعم بلاده للتحالف العربي في اليمن والإشارة إلى دور طهران في تعقيد الأزمة اليمنية، ورد محمد على الحوثي بالنفي على تلك التصريحات ودعوة الولايات المتحدة إلى خوض مواجهة مباشرة مع طهران، وهو التصريح الذي يتنافى مع دور القيادي الحوثي السياسي والأمني في تأزم ملف وعلاقته الخاصة بطهران إذ يعد من الرعيل الأول الذي التحق بالمعسكرات الإيرانية، خضع خلالها لعملية إعداد طويلة خلال مرحلة الحروب الستة 2004 - 2006 وكانت سببا في اعتقاله بعد عودته إلى اليمن وبعد الانقلاب ظهر على المشهد كقائد الجناح العسكري للميلشيا الحوثية، ثم جاء موقف الرئيس ترامب مؤخراً لدى استخدامه حق الفيتو ضد قرار الكونجرس ليؤكد على أن أحد مبرراته في استمرار دعم التحالف العربي في اليمن هو أن قرار الكونجرس "يشجع نشاطات إيران الخبيثة في اليمن". وهو المبرر الذي يفسر رد فعل ظريف وانتقاده مجددا للولايات المتحدة وموقفها الداعم للحكومة الشرعية والتحالف، دون أن يتناول في تعقيبه الرد على تلك الأنشطة الخبيثة التي تنتهجها بلاده في اليمن.

 

الشرعية اليمنية والنهج الإيراني: قرائن كاشفة

أما على صعيد موقف الحكومة الشرعية من تطورات الموقف الإيراني فيما بعد مرحلة ستوكهولم، فقد شخص وزير الخارجية اليمني خالد اليماني المقاربة الإيرانية في هذا الصدد في مقال له بصحيفة الأهرام المصرية - 21 مارس 2019 - بقوله "خلال لقاءاتي في بروكسل في بداية شهر فبراير الماضي على هامش الاجتماعات التحضيرية الوزارية للقمة العربية-الأوروبية، والتي التأمت مؤخرا بنجاح في شرم الشيخ المصرية، أفصح العديد من الوزراء الأوروبيين الذين التقيت بهم بأن إيران لعبت دورا لإنجاح مشاورات السلام في اليمن، وأنها وجهت الحوثيين للقبول بالاتفاقات التي تم التوصل إليها مع وفد الحكومة اليمنية في 13 ديسمبر 2018م، وكان ردي المباشر أنه إذا ما كان الأمر كذلك فلم لم توجههم إيران، الدولة الراعية للمليشيات الحوثية في اليمن، للقيام بتنفيذ تلك الاتفاقات؟! فكان الرد أن تغييرا في موازين القوى في المنطقة والضغوطات التي شكلتها العقوبات الأمريكية على إيران أفضت إلى دفع نظام الملالي لعدم التعاون في الملف اليمني".

 

وثمة مؤشر آخر في السياق ذاته يتعلق بنشاط نقل السلاح الإيراني إلى المليشيا الحوثية في اليمن ويتمثل في اعتراض الحكومة على مساعي الحوثيين نقل آلية التفتيش والرقابة على السفن من جيبوتي إلى الحديدة، حيث أكدت الحكومة رفضها هذا المسعى رسميا لدى الأمم المتحدة قبل أن يتم تطبيق اتفاق الحديدة أولاً ثم اعتماد آلية التفتيش بمشاركة الحكومة وتحت إشراف الأمم المتحدة، باعتباره محاولة التفاف جديدة من الحوثيين على الاتفاق.

 

في الأخير، يظل الموقف الإيراني يعبر عن ازدواجية في الخطاب والأداء، فالترحيب باتفاق ستوكهولم ليس سوى خطوة تكتيكية وظفتها إيران مرحلياً على الساحة الأوربية التي لا تزال تشاركها الاتفاق النووي ولم تنسحب منه على غرار الانسحاب الأمريكي، لتظهر كطرف يسعى للسلام والاستقرار في اليمن، ومن خلال ممارسة نفوذها على المليشيا الحوثية بدفعها للانخراط في المفاوضات كخطوة قابلة لأن تعيد إنتاج المليشيا بطريقة مشرعنة في المشهد اليمني.

 

 وربما ترى إيران أن استمرار تأزيم الأوضاع واشعال الجبهات يفي بهذا الغرض كونها تستغل تمسك القوى الدولية بمسار التسوية، ومن ثم ترفع سقف المطالب في جولات التفاوض، على اعتبار أن المشاركة الحوثية في المفاوضات أصبحت غاية وليست وسيلة أو آليه للحل.

 

ولكن في المقابل يمكن القول إنه في مقابل الخبرة الإيرانية تلك تشكلت خبرات كاشفة للسلوك الإيراني، وهو ما عكسته مواقف القوى الإقليمية والغربية الداعمة للشرعية في اليمن تجاه الخيارات التي تطرحها إيران بين الاستقرار المشروط أو الفوضى من خلال تحريك أدواتها الإقليمية، حيث تتبلور ديناميكيات جديدة من جانب التحالف والقوى الأخرى المنخرطة في الملف اليمني كتوجه مشترك لإضعاف الدور الإيراني وأدواته على الساحة اليمنية منها الموازنة بين استمرار عملية ردع المليشيا عسكريا من جهة وتعزيز دور وحضور الشرعية على الساحة الداخلية من جهة أخرى. وعدم إسقاط خيار التسوية كخيار قائم وفق الاشتراطات المتفق عليها من جانب الشرعية والقوى الداعمة لها إقليما ودولياً. ومن المتصور أن هذه الآليات قادرة على إحباط الدور الإيراني رغم مقاومة إيران لها إضافة إلى أن استمرار المليشيا الحوثية في ترسيخ الفوضى وإطالة أمد الحرب في اليمن بدعم إيراني لن يدوم للأبد.

*نقلا عن شبكة العين الإماراتية

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية