في كل صباحات أهالي حارة السوق الجديد في مديرية ريدة بمحافظة عمران، تظهر عجوز مسنة على لوحة المعاناة الإنسانية كل حين، تطرق أبواب الحي صباحا وظهرا ومساء بيديها المجعدتين طلبا للمساعدة، وقد اعتاد سكان في الحي أن يضعوا لها جزءا من طعامهم تعاونا معها في المحنة التي أوصلتها إلى هذه الحال.

 

لم تستطع هذه المسنة التعفف في بيتها، عندما بدأ الجوع يقرص طفلين يعيشان في منزلها بعد أن فقدوا أباهما الذي شاء له الحوثيون أن يهلك في محرقتهم، لتبدأ قصة بالغة المعاناة لأهله وأطفاله، كحال آلاف الأسر التي تسبب الحوثيين بمقتل معيلهم وذويهم فأصابهم الجوع والضياع والتشرد.

 

هذه الأم تعيل بالتسول أحفادها لابن لها كان يدعى عبد الله أحمد يحيى اللوذعي، عاش قصة مرة مع بطش المليشيا فانتهى به الحال صريعا مجزأ الأشلاء في إحدى المناطق بمحافظة الحديدة غربي اليمن، فلاقت أمه وأبوه وزوجته وطفلاه صنوف العذاب عندما تركتهم المليشيات يواجهون مصيرهم بعمران.

 

يئست زوجة اللوذعي من حالها وهي تأخذ بطفليها يوميا نحو منازل قيادات الحوثي في المنطقة ومقار الجمعيات التابعة للكهنوت، تبحث عن طعام ومال لأطفالها فتغلق الأبواب في وجهها ويطردها الجميع دون رأفة؛ وذاك هو دأب المليشيات.

 

وأسرة اللوذعي تعد من الأسر الأشد فقراً في تلك المنطقة، واستغل ابنها لظروفه المادية، ومنذ مقتله أصبحت والدته تتسول في المنازل بحثاً عن المال والطعام لأولاده، الذين يتشاركون العائلة ضنك العيش في غرفتين صغيرتين.

 

فآلاف من مقاتلي المليشيات الحوثية يتساقطون باستمرار في مُختلف جبهات القتال الممتدة في البلاد، بعضهم جنود عقائديون يتبعون المليشيات الكهنوتية ودربوا في سنوات طوال لمهمات منتظرة في سلب الدولة، والأغلبية منهم مغرر بهم استغلت المليشيات ظروفهم المادية ومستوى الوعي لديهم ودفعتهم ضريبة لحربها العبثية.

 

قصة المجند المغرر به عبد الله اللوذعي، توضح جانباً من المهمات التي تُلقى على عاتق مجندين حوثيين يتم توظيفهم بالإغراء في مهمات حربية مختلفة، سواء بالتعبئة، أو التحشيد، أو التجنيد، أو التدريب، وأيضاً القتال وفي زرع الألغام. وقد تكفل اللوذعي بثلاث مهمات متتالية، كانت الأولى عندما وظف في عملية استقطاب مجندين ومقاتلين من أبناء منطقته في محافظة عمران.

 

فشل عبدالله اللوذعي في المهمة الموكلة إليه من مليشيات البغي بعد اكتشاف سره من قبل الأهالي الرافضين لما تقوم به المليشيات، وشعوره بحملة ملاحقة من قبل أهالي أطفال جندهم سابقاً وقتلوا في الحرب، ولمخافته من انتقام أهل الأطفال منه، فر من عمران نحو محافظة الحديدة في العاشر من يناير/ كانون الثاني 2019، وهنالك التحق بمهمته الثانية.

 

في الحديدة لم يكن من خيار متاح أمام اللوذعي سوى حمل البندقية والقتال مع المليشيات أو أن يقتل بسبب "تهاونه" في الحرب على أيدي من جندوه، وفضل الخيار الأول الذي يتيح له نفسا إضافيا ولو لبعض الوقت من رصاصات المليشيات، إذ كان الموت المحتم سيلاقيه باكراً على أيدي المليشيات، أو آجلاً على أيدي القوات المشتركة كما لاقا الآلاف من مجودي الكهنوت، لكن هذه المهمة لم تدم حتى يومان.

 

التحق المجند اللوذعي في آخر مهمة له بفرق زرع الألغام التابعة للمليشيات، رغم عدم امتلاكه خبرة في هندسة الألغام، ألا أن المليشيات أجبرته على المهمة ضمن فريق متكامل، وفي الرابع عشر من يناير ذاته، تفحم جسده بعد أن مُزق أشلاء عندما انفجر به لغم كان يزرعه في احدى المناطق السكنية.

 

عاد اللوذعي من الحديدة نحو قريته وهو أشلاء محمولة بقطعة قماش، لا معالم تظهر هيئته المعهودة، وصل بها الحوثيون إلى أهله وذويه، وانتهى به الحال هنا، لكن مأساة أسرته بدأت من هذا اليوم الذي أعلن فيه مقتله.

 

سلسلة أجزاء تنشرها وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان «أُسر الصرعى المتحوثين فريسة للجوع والفقر وعنصرية الكهنوت»..

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية