حاول هذا الملف أن يجد تفسيراً للسلوكيات الفارسية حيال المنطقة العربية، العدائية في توجهاتها العامة الفعلية، وذلك عبر عملية تتبع ذهبت في الزمان إلى وقت نشوء الإمبراطورية الفارسية، وتشكل هويتها، وتطور هذه الهوية للمساعدة في مبتغى الفهم.

 

وتم تدعيم الفرضية التفسيرية بأمثلة تضمنت بعضها الإشارة العابرة لمسار العلاقات الفارسية العربية، واشتمل بعضها الأخر على قدر من التفاصيل، مع التركيز على وقائع قريبة ترتبط بفترة حكم المؤسسة الدينية الإيرانية بنظرية "ولاية الفقيه" الخمينية.

 

ويأتي الاهتمام بهذه الفترة لما تثيره من التباس وضبابية تعيق استيعاب حقائق الموقف الفارسي الإيراني من المشهد العربي، وبعض صلاته الخارجية.

 

انطلقت عملية التفسير من فرضية ترجع السلوكيات الفارسية مع العرب إلى قاعدة ثقافية هوياتية أكثر مما هي فعالية سياسية، وإن كان من الصعب فك الارتباط بين هذين العاملين، الثقافي الكامن وغير المرئي بوضوح، والسياسي الظاهر، أما السبب فيعود إلى مخزون ثقافي سياسي عم معظم الحضارات القديمة يتلخص في مفهوم الحاكم المقدس، وما وسعته، أو زادت عليه الثقافتان المتلاقحتان ، اليهودية والزرادشتية، من بناء مفاهيم الأسرة، والقبيلة المقدسة.

 

عندما تلقت الإمبراطورية الفارسية، ضربتها السياسية والعسكرية القاضية على يد العرب المسلمين، البدو التابعين الجوعى، في المنظور الفارسي، نشأ لدى النخب الفارسية المهزومة، بوعي أو بدون وعي، حركة مقاومة سياسية وعسكرية، لم تكن كافية لإشباع النزعة الاستعلائية على العرب، وإعادة إحيائها عبر أفعال ثأرية انتقامية تعادل مستوى الهزيمة التي نالتهم من العرب المسلمين، فلجأ الفرس إلى الباب الثقافي كبديل فاعل يضرب الحضارة العربية الإسلامية الناشئة في العمق، ويضمن استمرار الفعل الانتقامي عبر الزمن.

 

وفي الصدد اعتبر المخزون النفسي الفارسي، الإسلام معط عربياً مسؤولاً عن انطلاق المارد العربي من قمقمه وانقضاضه على الإمبراطورية الساسانية، ولأن الإسلام تمكن كدين من الشخصية العربية يصعب، بل يستحيل اقتلاعه، فقد انتقل الفعل الفارسي من مضمار المواجهة إلى مضمار الاحتواء، من خلال إعادة تدوير الدين الإسلامي في الوعاء الثقافي الفارسي، لإنتاج نسخة إسلامية فارسية تتولى عملية الانتقام.

 

الواقع أن الإسلام تمكن كدين، في نفوس العرب، ووضع أسس وموجهات ثقافة إسلامية، إلا أن الثقافة الجديدة على خلاف الدين كانت بحاجة لجهد بنائي، ولوقت، تتحول فيه إلى ناظم للحياة الإسلامية، ولأسباب عديدة أخذت الثقافة الفارسية على عاتقها القيام بعملية البناء هذه والانحراف بها عن المحددات الدينية للإسلام باتجاه صبغها بمكونات أساسية في ثقافة الفرس، فحولت المتغير القبلي في الشخصية العربية، وهو متغير ثقافي اجتماعي قابل للتطوير والتبديل في طبيعته، إلى ثابت ديني، استلهم مفهوم العشيرة المقدسة، ماكان له تداعيات سلبية في الثقافة الإسلامية انعكست في المستوى السياسي على إيجاد حالة انقسامية دائمة داخل المجتمع المسلم أخذت منحى صراعياً، عنيفاً، في كثير من الأحيان، استكمل بنيته التدميرية بربطه بمفاهيم اغتصاب الحق الإلهي، وما يترتب عليه من ثورة مستمرة لاستعادة هذا الحق، والثأر من المغتصبين.

 

كان لهذه البنية الأيديولوجية دوراً مهماً في استنزاف الطاقات الإسلامية عموماً، والعربية خصوصا،ً في جهود سياسية وعسكرية وأمنية، داخلياً. وهو ما حدث في التاريخ الإسلامي لحقب ماضية، ومازال يحصل اليوم، وبشكل بارز للعيان منذ تولي ملالي إيران، السلطة السياسية، وما جرته على المنطقة من ويلات طائفية، تخدم عملية الاستمرار في إضعافها لصالح أجندات أمريكية وإسرائيلية في الوقت الراهن، والمشكلة، من خلال شعارات إسلامية، المفترض عند ترجمتها عملياً، أن تصب في التعاون مع المنظومة العربية وتعزيز عوامل قوتها، لكن وبنوع من "التقية" السياسية تذهب الشعارات الفارسية في طرف، وتذهب الأفعال إلى الطرف المقابل، لدرجة تجعلنا لا نتجنى إن ختمنا بالقول: إن الفرس على استعداد لقتال كل العالم، لكن في أرض وبدماء عربية.

 

سلسلة حلقات تنشرها وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة السابعة عشر والأخيرة..

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية