في واقع الأمر، من الصعب دراسة الموقف الإيراني من إسرائيل والقضية الفلسطينية، خارج الساحة اللبنانية، لأسباب متصلة بالوجود المهم للشيعة الجعفرية، خصوصاً، في لبنان، ووزنهم الخاص في الذهنية الإيرانية الشيعية لدور علماء جبل عامل في تزويد الدولة الصفوية قبل خمسمائة عام بالرديف الدعوي لأعمال العنف الهادفة لنشر التشيع في إيران وقتها، سبب آخر يستحيل تجاهله هو تمكن إيران ولاية الفقيه من خلق وكيل سياسي وعسكري قوي في لبنان، بل وامتد نشاطه ليكون الوكيل الأهم لإيران في دول عربية أخرى، ويتمثل بحزب الله اللبناني، إلى جوار ما سبق، ما تشكله لبنان من تماس مباشر مع فلسطين، وثقل التواجد الفلسطيني فيها منذ العام 8491، ودور لبنان كرأس حربة عربية فلسطينية في مواجهة إسرائيل عقب قرارات عربية مشتركة.

 

بالنظر إلى الداخل اللبناني نجده يشكل مجتمعاً متنوعاً من الناحية الدينية، وهو ماله علاقة بموضوعنا، إذ يتكون بصورة أساسية من المسيحيين، والمسلمين، والأخيرون ينقسمون في ثلاث مجموعات رئيسية هي السنة والشيعة، والدروز، على خلاف في اعتبار هؤلاء مسلمين لكن، في جميع الأحوال ترتبط أدبياتهم بالتراث الإسلامي، بصرف النظر عن تقييمها والاتفاق أو الاختلاف معها.

 

أدى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والعربي الإسرائيلي عموماً، والصدامات العسكرية التي تخللت الصراع إلى عمليات نزوح فلسطينية من أراضيها إلى العديد من الدول العربية، وبالأخص الملاصقة للأراضي الفلسطينية، كان من بينها لبنان، التي تعد من أهم الدول العربية المحتضنة للفلسطينيين بمئات الآلاف منهم، ما جعل عدد الفلسطينيين يمثلون نسبة كبيرة من الكتلة البشرية في الأراضي اللبنانية، وزادت الأهمية اللبنانية للفلسطينيين وصراعهم مع الإسرائيليين، بـ"اتفاق القاهرة" سنة 1969م، الذي نظم وجود الفصائل الفلسطينية المسلحة في لبنان، ثم نقل مقرات منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان بداية السبعينيات على أثر طردها من الأردن نتيجة ما عرف بأحداث أيلول الأسود، منذ ذلك الحين صارت لبنان قاعدة الأنشطة العسكرية الفلسطينية ضد إسرائيل وأصبحت فعلاً تشكل قلقاً حقيقياً للإسرائيليين، خصوصاً وقد وفر الجنوب اللبناني، الذي وصل التواجد الفلسطيني المسلح فيه إلى تسميته "أرض فتح" أهم فصائل منظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات، وكان طرد المنظمة  وأذرعها المسلحة أهم أهداف الفعل السياسي والعسكري الإسرائيلي، فقامت إسرائيل بـ"عملية الليطاني" في الجنوب اللبناني، العام 1978م ضد الفصائل الفلسطينية، وصدر قرار مجلس الأمن "425" الداعي للانسحاب، إلا أن إسرائيل سلمت مع انسحابها في 1979م الأراضي المحتلة إلى ميليشيات لبنانية تابعة لها.

 

وأثناء الحرب الأهلية اللبنانية، غزت إسرائيل لبنان حتى وصلت إلى بيروت وحاصرتها، في العام 1982م ورغم طرد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي استهدفتها العملية الإسرائيلية من لبنان، كشرط لانسحابها، ظل القلق الإسرائيلي قائماً من إمكانية استمرار استخدام الفلسطينيين -تحت أي تسمية أو فصيل-  لأراضي جنوب لبنان ضدها فكان هاجسها، وإصرارها المتكرر على ضرورة وجود "منطقة أمن" تبتعد على الأقل عشرة أميال داخل الأراضي اللبنانية من حدودها.

 

لقد كانت زعزعة استقرار الفصائل الفلسطينية، وإيجاد منطقة أو حزام أمني في جنوب لبنان يمثلان أهمية استراتيجية للإسرائيليين.

 

بالعودة للوسط اللبناني، كان الشيعة في لبنان يشكلون قطاعاً شعبياً خاملا -إلى حد ما- من الناحية السياسية، بيد أن عوامل عديدة أسهمت في تنشيطهم، منها ما يرتبط بالانتعاش الأصولي الديني في السبعينيات، كما اشرنا سابقاً، والحرب الأهلية اللبنانية وإذكائها عمليات الفرز الطائفي، ثم ما أسهمت به الثورة الإيرانية من بعث للفعالية الشيعية.

 

ارتبطت عملية التنشيط الشيعي في لبنان بالدور المؤثر لرجل الدين الشيعي موسى الصدر، الذي تمخض عن تنظيم الشيعة في أفواج المقاومة اللبنانية "أمل" أواسط السبعينيات.

 

وبطبيعة الأيديولوجية الشيعية المسكونة بعقدة المظلومية، اتجه الكثير من تحركها ضد الفلسطينيين، الذين يشكلون بقوتهم العددية وتنظيم فصائلهم عاملاً مضعفاً للقوة السياسية الشيعية، لصالح القوة السنية اللبنانية، إذ أن الفلسطينيين المسلمين يكادون جميعهم ينتمون مذهبياً للسنة، فكان الشيعة المتحالفون، أولاً، مع النظام النصيري السوري، أحد أهم الأدوات التي استخدمت ضد الفلسطينيين في لبنان، يندرج كشواهد على ذلك اختطاف طائرة أردنية من شيعة كان مطلبهم طرد الفلسطينيين من المناطق الشيعية، والأهم حرب المخيمات خلال ثلاث سنوات منذ 1985م، التي أسفرت عن إضعاف الفصائل التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وانكفاء السلاح الفلسطيني داخل المخيمات، وليس من الصعب استنتاج ما يمثله ذلك من خدمات مجانية للدولة الإسرائيلية.

 

أما الموقف الإيراني مما يحدث في لبنان، كالعادة، اتسم بسياسة تصدير الثورة، كأولوية قصوى، وأثناء قتال حركة أمل الشيعية للفلسطينيين، توقع الشارع الإسلامي موقفاً يعي التأثير السلبي للمشكلة في خدمة القضية الفلسطينية، لكن ما حصل أن الخميني ألقى خطاباً تجاهل ما يحدث في لبنان، ولو بنية  لإيقاف الاقتتال، وعند حصار القوات الإسرائيلية لبيروت وضربها منظمة التحرير الفلسطينية، وهي منظمة نتجت عن العمل العربي المشترك -خذلها نظام ولاية الفقيه بعد انتصار ثورته- أزبد الخميني وأرعد، وتحدث نظامه عن تجهيز أربعين ألف مقاتل وإرسالهم إلى لبنان لقتال الإسرائيليين، إلا أن عددهم انخفض إلى ألف، وبدلاً من الوصول إلى بيروت لقتال القوات الإسرائيلية، وصلوا إلى البقاع لتدريب عناصر حركة أمل الإسلامية، النواة الشيعية المنشقة عن "أمل" والمكونة لحزب الله، الذي أعلن في بيان تأسيسه منتصف الثمانينيات استهدافه تقويض النظام السياسي اللبناني، وإقامة الجمهورية الإسلامية اللبنانية، التي هي إرادة الله كما قال الخميني.

 

سلسلة حلقات تنشرها وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة الرابعة عشر..

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية