ما يبدو للوهلة الأولى في النظر السطحي للعلاقات الإيرانية الإسرائيلية طغيان حالة العداء بين الجانبين، إذا تم تناول العلاقة من زاوية القضية الفلسطينية التي يظهر أن نظام ولاية الفقيه يقف بقوة إلى جانب الفلسطينيين، ولعل أحد الشواهد الممكنة في الصدد تحويل السفارة الإسرائيلية بطهران إلى الفلسطينيين في الأيام الأولى لنجاح الثورة الخمينية. وهنا يمكن ربط المسألة بحاجة الملالي إلى جاذبية شعبية توفرها شعارات العداء لإسرائيل وأمريكا المساندة لها، مع بعض الإجراءات المسرحية، إذ أنه في موضوع السفارة تحديداً سارع نظام الملالي إلى التخلص من أهم ضباط المخابرات الخارجية الإيرانية التي استطاعت غرسه في السفارة الإسرائيلية في عهد الشاه، بدلاً من الاستفادة الجدية منه، بحجة أنه من الموالين للشاه.

 

الواقع أن مقارنة نظرة الشارع الإيراني للفلسطينيين بين زيارة وفد فلسطيني في الأيام الأولى لنجاح الثورة، وبين زيارة أخرى في وقت لاحق تشي بتفسيرات ما. في الأولى حرص الإيرانيون على رفع أفراد الوفد على أكتافهم وأن لايمسوا الأرض من المطار إلى مقر إقامتهم باعتبارهم "كربلائيين"، يستحقون قدراً من القداسة، أما في الزيارة الثانية فقد كانت المعاملة جافة سواء من المسؤولين أو من رجل الشارع ما يوحي بتغيير كبير جداً في مزاج الإيرانيين تجاه الفلسطينيين قبل الثورة أو على الأقل في لحظاتها الأولى، وبعد تمكن نظام الخميني.

 

بالتأكيد كان هدف ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطيني تحقيق دفعة قوية للقضية الفلسطينية من دولة بحجم إيران يعتنق نظامها شعارات مؤيدة لفلسطين ومعادية بشدة لإسرائيل وحليفها الأمريكي، ويتسم بالطابع الثوري، بالإضافة إلى توقع احتفاظه بالجميل للفلسطينيين الذين أسهموا في تدريب حرس الثورة الإيراني قبل نجاح الثورة، لكن نظام الخميني كان له أجندته غير المعلنة في التعاطي مع القضية الفلسطينية، وهو تعاط سلبي في عمومه وواقعه.

 

السياسة الإيرانية في إيذاء الجيران العرب تعززت في ظل حكم الملالي من خلال خلق كيانات موالية مزعزعة للاستقرار، كتبني حركة الدعوة العراقية، وتأسيس ودعم حركات بذات الأسم في بعض الدول كالسعودية والكويت، وحزب الله في لبنان وفروعه أو بالأدنى أحزاب بنفس التسمية في بلدان خليجية، وأخيراً الحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن، والتدخل المباشر وعبر حزب الله اللبناني ومليشيات عراقية وأفغانية شيعية موالية في سوريا، وإطلاق موجة تبشير شيعية في هذا البلد، ولا يخفى أن إثارة القلاقل في البلدان العربية يزيد الموقف العربي ضعفاً حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبتنسيق أو بدونه، وبقصد أو بدونه فإن إضعاف المنظومة العربية - حتى بحالتها الراهنة - يصب استراتيجيا في المصلحة الإسرائيلية، ويخدم الأجندة الأمريكية التي يهمها بقاء قدر من حالة القلق في المنطقة للمزيد من الاستنزاف المالي والاقتصادي والسياسي، وحبس العرب في إطار مشاغل أمنية تعرقل أية مشروعات نهضوية حقيقية.

 

وهذا أمر طبيعي بالنسبة لسياسات الدول الكبرى، كما أشرنا سابقاً، منذ ظهور المسألة الشرقية، وجهود محمد علي باشا، ويبدو منطقياً ومعقولاً إذا ما شخص زرع الكيان الإسرائيلي على أنه قاعدة متقدمة للقوى الكبرى مغروزة في قلب العالم العربي، وإذا ماوصف الصراع في ضوء الوقائع الجغرافية والتاريخية بأنه صراع فلسطيني إسرائيلي، في وجه، وعربي إسرائيلي في وجهه المكمل، وإن كنا لا نغفل البعد الإسلامي المساعد والمتضمن على كل حال في الوجهين الفلسطيني والعربي.

 

القضية الفلسطينية تمتد سياسياً إلى أواخر القرن التاسع عشر وتأسيس الحركة الصهيونية العالمية، وإن كانت أيديولوجيا تمتد إلى أكثر من ذلك بكثير، والنزاع العسكري تزايدت حدته بين العرب الفلسطينيين، والإسرائيليين بعد صدور وعد بلفور، وتوسع النطاق أعقاب إعلان دولة إسرائيل منتصف أربعينيات القرن الماضي إلى صدام عربي إسرائيلي، وخاض العرب أربع حروب مع إسرائيل، هي حصرياً الحروب الخارجية للأخيرة، وفي كل هذه الحروب كانت الإسهامات غير العربية تكاد تكون معدومة، سواء الرسمية أو الشعبية، بما في ذلك إسهام المؤسسة الدينية الإيرانية رغم قوتها المالية والشعبية في إيران.

 

إذن فقد كانت القضية الفلسطينية عربية بالأساس، وعمرها يتجاوز مئة وعشرين سنة، لا ثلاثين سنة أغلبها هادئة بين إيران وأذرعها وبين إسرائيل، وللإشارة إلى الدور المحوري للمنظومة العربية، برغم وضعها، نذكر تدمير العراق، وحالياً سوريا، وإخراجهما - على الأقل منذ سنوات مضت ولسنوات قادمة من معادلة الصراع - وفي المضمار إذا أخذنا بمبدأ الشعارات المعلنة العدائية لإسرائيل، لكانت إيران أكثر خطورة على الإسرائيليين من العراق في العام 2003م، ولكانت من ثم أولى بالتدمير والغزو من العراق فالأخير كان منهكا اقتصادياً وعسكرياً في أعقاب حرب طالت مقدراته في 1991م، تبعها حصار خانق استمر حتى الغزو، وبالتالي كان فعلياً أضعف من إيران لناحية تهديد إسرائيل، وبخاصة وأن مبررات تدمير العراق في 2003 كانت مبررات واهية مرتبطة بأسلحة الدمار الشامل، في وقت كانت إيران تتمتع منذ انتهاء حربها على العراق بفرصها في البناء التنموي والعسكري، غير علاقتها من أيام ثورتها الخمينية بالإرهاب وفق المصطلحات الدولية، والأمريكية تحديداً، ومن ثم كانت إمكانية خلق مبررات ضربها عسكرياً متوافرة أكثر من العراق، إلا أن ما حصل هو بقاء إيران سالمة بل وتسليم العراق لها بعد ضربه وتدميره والقضاء على نظامه القومي العروبي.

 

سلسلة حلقات تنشرها وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة الثالثة عشر..

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية