السرطان الفارسي.. الدولة الصفوية (الحلقة 7)
لنا أن نتوقف قليلا عند الدولة الصفوية الأب الأيديولوجي الحديث للدولة الإيرانية الخمينية في الوقت الحاضر، والقناة التي على يديها تعمقت وتوسعت الشعوبية وتحولت إلى فعل سياسي إلى جانب النشاط الثقافي المنتقص للعرب الذي طبع الشعوبية التاريخية.
تنسب الأسرة الصفوية إلى صفي الدين الأردبيلي في القرن الثالث عشر الميلادي، واستطاع الأردبيلي أن يكون جماعة من المريدين الصوفيين مكنت له ولأحفاده من بعده نفوذاً وتكاثراً في الأتباع. وتحولت الحركة الصفوية، الصوفية السنية، في القرن الخامس عشر إلى التشيع، وفي عهد قيادة إسماعيل الصفوي تنظمت قبائل القزلباش التركية في تشكيل عسكري شيعي عقائدي، استخدمه إسماعيل في احتلال كل فارس الساسانية بإضفاء صبغة مقدسة أساسها ادعائه بتكليفه من الإمام علي بن أبي طالب عبر رؤيا في المنام، وتأكيد التكليف من الإمام الغائب في لقاء تم بينهما، ليؤسس دولة شيعية نشرت التشيع في إيران عن طريق خط أيديولوجي زاد من عملية إدماج التشيع في التصوف، والنزعة الفارسية الشعوبية المنتقصة للعرب.
استعانت الدولة الصفوية بوسائل عدة في تحويل معظم سكان المنطقة الفارسية إلى التشيع الجديد، أهمها القمع المتطرف للناس على مدى يتجاوز الخمسين سنة، وتأثيره في نزوح بعض السكان إلى خارج أراضي الدولة، في مقابل استجلاب المزيد من المنتمين إلى قبائل القزلباش من أراضي الدولة العثمانية، وتحديداً من تركيا الحالية. هذه القبائل التي مثلت العمود الفقري للدولة الصفوية منذ نشأة الحركة، وظلت فاعلة في العقود الأولى من تاريخ الدولة خصوصاً في عهد مؤسسها إسماعيل.
نعود للتأكيد أن أرضية الثقافة الفارسية شكلت عبر التاريخ الإسلامي بيئة خصبة وكامنة لتقبل الشيع، تجلت من خلال أغلب الدول الشيعية التي ظهرت عبر القرون في النطاق الفارسي، ومن الروح الصوفية ذات الأصول الأدبية الزرادشتية والهندوسية، ثم البوذية، التي تميزت بها الثقافة الفارسية الشيعية، ولم تكن عمليات القمع إلا عمليات تسريع لانخراط الإيرانيين في تفاصيل السلوكيات الشيعية في إطار مشروع سياسي قدم نفسه منافساً للسلطنة، ثم الخلافة العثمانية السنية.
وكسابقاتها من الدول الشيعية تركزت فعاليتها العسكرية في محاربة الأوزبك السنة شرقاً، والعثمانيين غرباً، الذين كانوا في صراعات على جبهتهم الشمالية في أوروبا المسيحية.
ما يهمنا لناحية الارتباط بموضوعنا هو أن الدولة الصفوية كانت عامل إنهاك لأهم قوة إسلامية حينها، عن طريق صدام مباشر، أو خلخلة داخلية باستغلال امتداد قبائل القزلباش في مركز الدولة العثمانية، وتشجيع حركات التمرد الداخلية.
وبالتزامن مع العلاقات المتوترة بينها وبين العثمانيين، طورت الدولة الصفوية مفاهيم أيديولوجية عمقت الهوة بين التسنن والتشيع، بتدعيم الأخير بممارسات طقوسية جديدة، فبينما كانت تقاليد دول شيعية سابقة إحياء مظاهر كرنفالية في مناسبات، كالمولد النبوي، وكربلاء، خصص الصفويون وزارة بمسمى "الشعائر الحسينية" التي ذهب وزيرها إلى أوروبا الشرقية "وأجرى هناك تحقيقات ودراسات واسعة حول المراسيم الدينية والمذهبية والمحافل الاجتماعية المسيحية، وأساليب إحياء ذكرى شهداء المسيحية والوسائل المتبعة في ذلك حتى أنماط الديكورات التي كانت تزين بها الكنائس في تلك المناسبات. واقتبس تلك المراسيم والطقوس وجاء بها إلى إيران حيث استعان ببعض الملالي لإجراء بعض التعديلات عليها لكي تصبح صالحة لاستخدامها في المناسبات الشيعية وبما ينسجم مع الأعراف والتقاليد الوطنية والمذهبية في إيران، ما أدى بالتالي إلى ظهور موجة جديدة من الطقوس والمراسم المذهبية لم يعد لها سابقة في الفلكلور الشعبي الإيراني ولا في الشعائر الإسلامية" كما ذكر المفكر الإيراني المعاصر علي شريعتي.
وفيما كانت فكرة النيابة عن الإمام في غيبته الكبرى غامضة وغير مفعلة، ولا سيما في شقها السياسي، اعتبرت الدولة الصفوية الحاكم مفوضاً بالسلطة الزمنية من نائب الإمام الغائب، وطالما النائب يتلقى تعليماته من الإمام "المهدي المنتظر" فإن سلطته معصومة ومقدسة تعد مخالفة قراراتها مخالفة دينية.
مع هذا ظلت السلطتان الروحية والزمنية تتمتعان بقدر من الاستقلالية، فكانت نظرية نائب الإمام نصف ثيوقراطية، واتخذها الحكام الصفويون تبريراً دينياً لسلطتهم المطلقة، ثم اقترح -بناء على رأي سابق للعالم الشيعي محمد بن مكي الجزيني الملقب "الشهيد الأول" في كتابة اللمعة الدمشقية- أحمد النراقي تسلم الفقيه "الولي الفقية" السلطة الزمنية مباشرة إلى جانب سلطته الدينية، لكنه خفف النزعة الثيوقراطية بعدم اعتبار الولي الفقيه نائباً للإمام الغائب وبالنتيجة عدم عصمة سلوكياته السياسية، وبصورة أخرى كانت نظريته عكس ما كان سائدا لكنها أيضا النصف الثيوقراطي المقابل لنظرية نائب الإمام المعصوم، إلى أن جاء الخميني ليدمج النظريتين في دعوته إلى قيادة الولي الفقيه السلطتين الدينية والسياسية نيابة عن الإمام، ليشكل بذالك نظرية ثيوقراطية كاملة تحكم إيران اليوم.
إذن فقد وضعت الدولة الصفوية عملياً بذور نظرية ولاية الفقيه، ووضعت قواعد قوة المؤسسة الدينية الشيعية القائمة في الوقت الراهن، وأعادت إمكانية إحياء الإمبراطورية الفارسية الساسانية السابقة على الإسلام، وأسست لانقسام أيديولوجي طائفي حاد في الداخل الإسلامي.
منذ العهد الصفوي اكتسبت المؤسسة الدينية الشيعية تنظيماً وقوة جعلتها عاملا مهما وحاسما في كثير من الأحيان على مسار التاريخ السياسي الإيراني.
في الفترة الواقعة بين السيطرة الصفوية على إيران قبل خمسمائة سنة وإلى اللحظة طورت المؤسسة الدينية أفكاراً تساعد على استمرارية فعلها، من أهمها مبدأ التقليد الصارم الذي ألزم كل شيعي جعفري في العالم أن يتخذ له مرجعية من رجال الدين يلتزم فتاواها، بالإضافة إلى تطوير مبدأ النيابة عن الإمام الغائب في بعض المسائل كصلاة الجمعة والجماعة وصولاً إلى فكرة الولاية المطلقة للفقيه على المجالين الروحي والزمني، الديني والسياسي.
ومن الناحية التنظيمية عززت المؤسسة الدينية الشيعية سلطتها من خلال الأخذ بنظام هرمي لرجال الدين يحاكي إلى حد ما تنظيم الكنيسة الكاثوليكية، وبسوابق في تنظيمات باطنية سرية كالجناح الشيعي الإسماعيلي، وتبلور أكثر في مفهوم المرشد الكامل في العهد الصفوي، وحديثاً في المرشد الأعلى أو الولي الفقيه.
لعل أهم أسباب قوة المؤسسة الشيعية يكمن في قدرتها على حفظ استقلاليتها المالية عن السلطة السياسية، فبينما يمثل الوقف الديني مصدر الدعم المالي الأهم للمؤسسات الدينية في كثير من الأديان والأنظمة المذهبية الدينية، بما فيها المؤسسات الدينية السنية، فإن المؤسسة الشيعية تخلصت من إمكانية سيطرة السلطات السياسية على الأوقاف وإداراتها، وبالتالي التحكم بالحنفية المالية، بالاعتماد على مايُعرف في الأدبيات الفقهية بأموال الخمس، والإيجاب على أي شيعي تسليم الخمس إلى نائب الإمام ، ويعني في هذه الحالة المرجعية الدينية، وبذلك تكون المؤسسة الدينية قد خلقت مصدر تمويل عصي على السيطرة والرقابة من السلطات السياسية مقارنة بالأموال الوقفية، زاد من أهميته الاجتهادات – الملزمة – التي وسعت مفهوم الخمس، المقتصر في الأدبيات الإسلامية على غنائم الحرب والركاز، ليشمل تقريباً كل مصادر دخل الفرد الشيعي.
سلسلة حلقات تنشرها وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة السابعة..