قبل الخوض في العصر الحاضر، وكجزء من عملية التفسير والفهم ينبغي التطرق إلى جدلية العروبة والإسلام، وأهمية العرب للإسلام، وفي المضمار لا نحتاج إلى تأكيد حقائق عربية القرآن والنبي وحملة الرسالة الأوائل، وإنما سنلمح إلى الدور العربي في الإسلام من خلال الدعوة إلى مقارنة الخريطة الإسلامية في سياق القيادة العربية للفعل الإسلامي، مع ذات الخريطة في ظل تسلم الراية الإسلامية من سلطات إسلامية غير عربية.

 

ننطلق من تفحص هذه الخريطة في العهد الأموي لنشاهد مساحة بلدان تقطنها غالبيات مسلمة تمتد من المحيط الأطلسي غرباً وصولاً إلى شمال غرب الصين والأجزاء الشمالية الغربية للهند شرقاً، ومن ديار بكر، في تركيا الحالية شمالاً إلى البحر العربي والصحراء الأفريقية جنوباً. ما التعديلات التي طالت هذه الخريطة المشيدة من قبل العرب المسلمين؟

 

خسران الأندلس في العهد العثماني، وإضافة بقية تركيا الحالية في الفترة السلجوقية تحت مظلة الخلافة العباسية، وضم المماليك أجزاء من السودان بقيادة اسمية لخلفاء عباسيين، وبعض زيادات في الهند وبعض الأجزاء في روسيا في العهود المغولية. في الواقع تمثل زيادات طفيفة لا تتجاوز كثيراً مساحة الأندلس الضائعة – أما جنوب الصحراء الأفريقية فكان للمرابطين العرب، والبربر المندمجين نهائياً في الثقافة العربية الإسلامية قصب السبق في زراعة الإسلام هناك، وبالنسبة لجنوب شرق أسيا فكان للتجار المسلمين من أبرزهم الحضارمة العرب الدور الأكبر.

 

الآن دعونا نفترض المساحة والعدد للإسلام تحت قيادات وسلطات غير عربية. فتح الغزنويون وتبعهم الغوريون والمغول المسلمون الهند، ولم يثمر إلى تحول أغلبية السكان للإسلام، ومازالوا أقلية. ورغم إقامة المغول – ربما لأكبر إمبراطورية في التاريخ – وانخراطهم في الإسلام ظل معظم سكان الأراضي غير الإسلامية التي فتحها المغول على ديانات غير الإسلام. وتوغل العثمانيون في شرق أوروبا ومازال المسلمون أقلية ضئيلة في البلدان الأوروبية العثمانية، إذن فالعرب هم مادة الإسلام وإضعافهم هو إضعاف للإسلام وللفعل الإسلامي.

 

التقت الخاصية التداخلية بين العروبة والإسلام في تشكيل حيز جغرافي ثقافي ذي أساس لغوي ديني يعرف اليوم بالعالم العربي، ويشمل مراكز انطلاق أهم ثلاثة أديان مؤثرة، بينها اثنان تبعهما ما يقارب ثلثي سكان العالم، وفي هذا الحيز ظهرت أقدم حضارات الأرض، وامتص وهيمن على مسارات الحضارات المتاخمة، وفي العصور الحديثة أصبح مسرحاً لاغنى عنه للسياسات الدولية.

 

يمكن إرجاع بداية العصر الحديث إلى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، مع اختراع الطباعة، واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، والقارة الأمريكية، وإلى حد ما سقوط الأندلس، والقسطنطينية، وترجع أهمية هذه الوقائع إلى التحولات التي أحدثتها في موازين القوى الدولية في مختلف المجالات لصالح النطاق الأوروبي، قد يبدو ضم الأتراك للقسطنطينية دليلا مضادا،ً لا مؤيداً للقوة الأوروبية، بينما في الحقيقة حتى الدولة العثمانية انتقل مركز فعلها إلى القسطنطينية (اسطنبول) الواقعة في الحيز الأوروبي،  بجعلها عاصمة الدولة، والقيمة الرمزية المحفزة للعالم المسيحي الأوروبي كونها عاصمة الدولة الرومانية البيزنطية، ومركز الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، إلى جانب ما أسهمت فيه من نزوح التراث اليوناني إلى أوروبا – إيطاليا وفلورنسا خصوصاً – وأثره في النهضة الأوروبية.

 

على الصعيد الدولي، رغم الضعف والتشتت الحاكم للحالة العربية في العصور الحديثة، بقيت المنطقة عامل قلق على خارطة القوة العالمية، الأوروبية وسليلتها الأمريكية لأسباب جغرافية وتاريخية.

 

تبلغ مساحة العالم العربي أكثر من 13 مليون كيلو متر مربع، تفوق مساحة أوروبا مجتمعة، وتقارب ضعف كبريات الدول في العالم، عدا روسيا التي تزيد بثلاثة ملايين كيلو متر مربع، إلا أن المنطقة العربية تتميز ،مقارنة بروسيا،  بتوزع سكاني متوازن ولديها ثروات طبيعية تستطيع توفير قدر جيد من التكامل، أو ما كان يوصف بالاكتفاء الذاتي، وحديثاً زاد توفر النفط من رفع أنصبتها في بورصة السياسة الدولية، إضافة لوقوعها على قارتين، وبين ثلاثة فضاءات جيوسياسية، أوروبا وأسيا وأفريقيا، ما يميزها عن أية قوة دولية معاصرة، وتقطنها شعوب تشكل أمة واحدة في مجملها، حتى الأقليات فيها سواء الدينية، المسيحية بدرجة أولى متشابكة مع السكان في العنصر اللغوي، ومثلها تتداخل الأقليات العرقية مع السكان عبر العنصر الديني، ما يخفف – بمعالجات سياسية حكيمة – من وطأة هذه الأشكال من الانقسامات الداخلية، لا سيما وهناك تطور تاريخي مشترك، ذو نزعة تسامحية مساندة.

 

ومن الناحية التاريخية، شهدت المنطقة قدراً فريداً من الاستمرار الحضاري، وكانت حالات الانكفاء والخفوت عابرة.

 

قبل عشرة آلاف سنة ظهرت الزراعة في منطقة الشام، وأثمرت نقل البشرية من مرحلة الصيد والترحال إلى مرحلة الاستقرار والاستيطان، وما أتاحه من إمكانية نشوء الحضارات قبل خمسة

 

آلاف سنة تقريبا، واستمرارها في بلاد الرافدين، ومصر، والشام، وجنوب الجزيرة العربية، ثم استيعابها وتبوؤها مراكز قيادية في الحضارتين اليونانية والرومانية عبر مدن أهمها الإسكندرية، وإنطاكية، وأورشليم، واستمرار هذه الفعالية عبر الأنشطة التجارية الفينيقية، والعربية الجنوبية، والأهم من خلال الديانات السماوية الثلاث، اليهودية، والمسيحية، والإسلام، واستمرار الدور المهم للمنطقة في العصر الإسلامي إلى نهاية العصر المملوكي أوائل القرن السادس عشر الميلادي.

 

وخلال فترة الانطفاء في العصر الحديث جرت محاولات انبعاث بداية القرن التاسع عشر على يد محمد علي باشا، قبيل ضرب مشروعه ذي البعد العروبي الإسلامي بتواطؤ غربي عثماني، وما تبعه من رسم القوى الكبرى سياسات تفكيكية تعيق أية مساع لاستعادة الفعل الحضاري والسياسي للمنطقة العربية وطاقتها الثقافية الكامنة في إسلام قادر على حفظ الهوية دون الانعزال عن تطورات الزمان، وما زراعة إسرائيل وسط الجناحين الشرقي والغربي للمنطقة، وقمع أية مشروعات نهضوية ذات صبغة غير قطرية إلا أساليب تعبر في جوهرها عن وعي القوى الكبرى بحركة الانبعاثات المتكررة للمنطقة خلال عشرة آلاف سنة مضت، وتأثير أي انبعاث جديدة على المعادلات الحضارية والسياسية للعالم، بالضرورة على حساب القوى المهيمنة.

 

وعلى المضمار الإقليمي انتقل الفعل الإسلامي من النطاق العربي إلى خارجه، العثمانيين من تركيا الحالية، وبدرجة أقل إلى الصفويين الذين نجحوا إلى حد كبير في استرجاع الخارطة الفارسية الساسانية، بعد نحو تسعمائة سنة من القضاء عليها، وهذه المرة من خلال الأيديولوجية الشيعية. وفي هذه الفترة اتسمت العلاقات العثمانية "السنية"، والصفوية "الشيعية" بصراع سياسي وعسكري اتخذ بعداً طائفياً، خدم ومازال، سياسات الإنهاك الداخلي للإسلام.

 

 

سلسلة حلقات تنشرها  وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة السادسة..

 

لقراءة المزيد:

  • السرطان الفارسي.. وهم التفوق الحلقة 1  
  • السرطان الفارسي.. مقاومة الإسلام الحلقة 2
  • السرطان الفارسي.. القبيلة أولا الحلقة 3
  • السرطان الفارسي.. العشيرة المقدسة الحلقة 4
  • السرطان الفارسي.. غزو داخلي الحلقة 5

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية