وكالة 2 ديسمبر الإخبارية

الثورة مستمرة...

منذ تدخل روسيا العسكري في جزيرة القرم في سنة 2014، ظلت أوروبا في حالة تأهب عالية تحسّبا للمزيد من العدوان الروسي. وكثفت الحكومات الأوروبية التمارين المشتركة والدعوة إلى المزيد من الإنفاق العسكري. وفي ذات السياق، ينضّم حلف شمال الأطلسي أضخم مناورات عسكرية منذ نهاية الحرب الباردة (1991-1947)، بدأت الخميس 25 أكتوبر 2018 وتتسمر إلى غاية 7 نوفمبر المقبل.

 

لكن، ينتقد بعض الخبراء العقلية التقليدية الأوروبية في التعاطي مع التهديد الروسي، والقائمة على العقوبات واستعراض القوة العسكرية، مشيرين إلى أن موسكو طورت في سياساتها لاختراق الدول، ولا يقتصر الأمر على الجوسسة والحرب السيبرانية بل تضرب روسيا في عمق الدول من خلال وكلاء لها.

 

وترصد دراسة نشرته مجلة فورين أفيرز، في أحدث أعدادها، كمثال، مجموعة “ذئاب الليل”، التي تعرف أيضا بلقب “ملائكة بوتين” بسبب علاقاتها بالرئيس الروسي فلادمير بوتين، وهي بالفعل ذراع من أذرع الكرملين، وفق معدا الدراسة ميتشال أ. أورشتين وبيتر كريكو.

 

ويشير أورشتين وكريكو إلى أن حرب موسكو الهجينة على الغرب أخذت منحى غير متوقع، حيث أقام التنظيم شبه العسكري الروسي قاعدة متخفية باعتبارها مقر عصابة دراجات نارية على بعد أكثر من ساعة بقليل من براتيسلافا في سلوفاكيا، أي داخل حدود الناتو نفسه.

 

وفي يوليو 2018 نقلت الصحافة السلوفاكية أن “ذئاب الليل”، وهي عصابة دراجات نارية روسية، أحدثت قاعدة عمليات أوروبية رسمية في قرية دولنا كروبا على موقع يملكه جوزيف همبلاك، وهو مقاول تربطه علاقات مع الميليشيات اليمينية السلوفاكية.

 

وكان من الممكن ألا تحظى هذه القاعدة بالاهتمام الدولي لولا مقطع فيدو أخذ من الجو ونشر في الصحافة السلوفاكية أظهر، لا فقط الدراجات النارية، لكن أيضا دبابات وناقلات جنود مصفّحة كان همبلاك استعارها من المعهد السلوفاكي للتاريخ العسكري بحجّة تأسيس متحف تاريخي عسكري. (تم عزل مدير المعهد الذي ادعى أنه خدع).

 

ذئاب الليل تعطي مثالا على نزعة أكبر لدى الحكومة الروسية لتفويض أنشطة لفاعلين لا يتبعون الدولة كانت سابقا تقوم بها المخابرات والكيانات العسكرية التابعة للدولة بما في ذلك جمع المعلومات الاستخباراتية

 

وتبيّن أن المركبات خارجة عن الخدمة. وتمت إعادتها إلى وزارة الدفاع السلوفاكية. لكن الحادثة تركت قلقا كبيرا. ويشير أورشتين وكريكو إلى أن تأسيس قاعدة ذئاب الليل داخل الناتو هو امتداد لإحدى الاستراتيجيات المفضلة لدى موسكو في السنوات الأخيرة.

 

وتقوم هذه الاستراتيجية على توظيف وكلاء مقنعين، مثل مرتزقة بي.أم.سي واغنر في سوريا، والجماعات شبه العسكرية المحلية في أوكرانيا أو الرجال الخضر الصغار في القرم. ويخدم هؤلاء المصالح الروسية في الخارج، دون تقديم أي دليل مباشر على تورط الكرملين، الذي يمكن أن ينفي ببساطة أي علاقة بهم، وهو ما يعيق قدرة الغرب على الرد.

 

ذئاب الليل في أوروبا

ظهرت جماعة ذئاب الليل كجماعة دراجات نارية معارضة للثقافة السائدة وذات استقلالية في روسيا في ثمانينات القرن العشرين، وعلى الرغم من أن سياسة أعضائها ازدادت وطنية في السنوات الأخيرة إلا أنهم (الأعضاء) مازالوا يصورون أنفسهم على أنهم ناد خاص. بيد أن متابعة ميتشال أ. أورشتين وبيتر كريكو لهذه المجموعة عن كثب تكشف أن هناك روابط وطيدة بين هذه الجماعة والكرملين.

 

وتأسست ذئاب الليل في أوروبا كفرع مستقل من وولف هولدينغس، وهي إمبراطورية أعمال تمتد مصالحها عبر روسيا وأوروبا. وتنظم فروع هذه الإمبراطورية أنشطة تعليمية ووطنية، حيث تسيّر نوادي ليلية وفنادق ومركز دراجات نارية وتقوم بعمليات أمنية وبتدريبات بما في ذلك التدريب العسكري الاحترافي للمدنيين والشرطة والقوات العسكرية في ألمانيا والمجر وإيطاليا وصربيا وسويسرا. ومثلما يوضح تقرير أعده الخبير في الحرب غير النظامية ماتيو لودر، ترتبط وولف هولدينغس ارتباطا وثيقا بالدولة الروسية، حيث أن رئيس الشركة والمالك الأساس لها جنادي نيكولوف هو ضابط عسكري سابق ونائب رئيس حاليا لقوات الدفاع عن النفس “سفاستوبول” الموالية لروسيا والتي تعرضت لعقوبات وزارة الخزانة الأميركية في سنة 2017. وزعيم جماعة الدراجات النارية في حد ذاته ألكسندر زالدوستانوف، ظهر عدة مرات في صور بالقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

 

وتوصل لودر إلى أن ذئاب الليل “تعطي مثالا على نزعة أكبر لدى الحكومة الروسية لتفويض أنشطة لفاعلين لا يتبعون الدولة كانت سابقا تقوم بها المخابرات والكيانات العسكرية التابعة للدولة بما في ذلك جمع المعلومات الاستخباراتية ونشر الدعاية والإثارة والاستفزاز والعمليات القتالية والعنف حسب المقاس”.

 

استراتيجية أوسع

في أوروبا تعرف ذئاب الليل أكثر بأنشطتها “الوطنية”، ففي كل ربيع تقوم ذئاب الليل برحلة على الدراجات تحظى بدعاية واسعة من موسكو إلى برلين للاحتفال بذكرى النصر الروسي في الحرب العالمية الثانية. ومن خلال ذكر هدف الرحلة المتمثل في تقفي “مسالك الحج للماضي البعيد، مع التوقف في المراكز القديمة للمسيحية الأرثوذوكسية”، تثير المجموعة محاور دعائية روسية معهودة مثل العظمة السوفييتية والمسيحية الأرثوذوكسية والقومية السلافية.

 

في أوكرانيا، ساهمت روسيا في تأسيس مجموعات شبه عسكرية ونصبتها لاحقا “حكومات” في المنطقتين المنفصلتين دونيتسك ولوغانسك. كما قامت روسيا بتطوير تنظيمات شبه عسكرية صديقة بكافة أرجاء أوروبا الوسطى والشرقية في محاولة لاستقطاب عامة الناس في بلدان الناتو والتسبب في شلل الأنظمة السياسية فيها.

 

نجحت روسيا في السنوات الأخيرة في أن تكون رقما صعبا في العديد من المعادلات الدولية، وهي اليوم تعتبر التهديد الرئيسي الذي يدفع حلف الناتو إلى تنظيم أضخم مناورات عسكرية له منذ الحرب البادرة

 

وفي سلوفاكيا، دعمت موسكو عدة تنظيمات شبه عسكرية موالية لروسيا، من أكبرها “المجندون السلاف” و”فريق العمل كيزوس للمقاومة”. وتنشر هذه المجموعات وجهات نظر معادية للناتو ومعادية للاتحاد الأوروبي بينما تدرب أفرادها على المهارات والتكتيكات العسكرية. وتلقّى البعض من أفرادها، وفق تحقيق فورين أفيرز، التدريبات في روسيا من القوات الخاصة الروسية سابقا وقاتل بعضها جنبا إلى جنب مع المجموعات شبه العسكرية في أوكرانيا.

 

وإضافة إلى القتال لفائدة روسيا ساعدت هذه المجموعات على دفع الآراء المتشددة المؤيدة لروسيا إلى الساحة السياسية السائد في أوروبا الوسطى. ويذكر أورشتين وكريكو أنه في سلوفاكيا أحدثت مدرسة ثانوية بأكملها من أجل تطوير علاقات وطيدة بين الروس والأجهزة الأمنية السلوفاكية، إذ أسست المدرسة المهنية الثانوية الخاصة لحماية الأشخاص والممتلكات ومقرها في براتسلافا في سنة 2007 من قبل ستيفان كوريلا، وهو مدرب قوات خاصة روسي معتمد بتمويل من الصيرفي الروسي ومقاول الكيك بوكينغ سرجاي شبينوغا.

 

وتشغّل المدرسة أساتذة من سلوفاكيا وروسيا وتنشر آراء مؤيدة لروسيا ومعادية للغرب وللناتو بين طلابها الذين يشتغل الكثير من آبائهم في الشرطة السلوفاكية أو في أجهزة المخابرات أو وزارتي الدفاع والداخلية. ومدير المدرسة السابق جوزاف قاندزالا هو عضو في جمعية الجنود السلاف، وهي منظمة مناضلين قدامى موالين لروسيا اتهمت وزارة الدفاع السلوفاكية بـ”الخيانة” لدعمها نشر جنود الناتو في لتفيا في سنة 2007.

 

وتخلص الدراسة إلى أنه على المدى القصير يجب على الولايات المتحدة وبلدان الناتو الأخرى العمل بجد من أجل غلق قاعدة ذئاب الليل في أوروبا. لكن من الضروري ضبط استراتيجية بعيدة المدى لمواجهة خطة روسيا في تمويل وتنظيم ومساندة التنظيمات شبه العسكرية والمتطرفة في الخارج.

 

صحيفة العرب اللندنية