الرواية اليمنية تُكرم فرنسيا بوسام الفارس
يحرص المثقفون اليمنيون بمختلف إبداعاتهم على إثبات حضور اسم اليمن عربياً وعالمياً، وانتزاع استحقاق وتكريم رغم تعثر اللحظات التي تضم بلدهم، لكنهم يحققون كسباً مدهشاً فوق مستوى المتوقع ويرسمون بسمة من النشوة والفخر لدى جماهير شعبهم المنهكة والمحرومة من منافذ الانتصار والبهجة.
مؤخراً مُنح الروائي اليمني علي المقري- المقيم في فرنسا- وسام الفارس الذي تمنحه الرئاسة الفرنسية عبر وزارة الثقافة والفنون الفرنسية، وهو وسام فرنسي عالمي رفيع، له امتيازات خاصة تعزز رمزية الثقافة الفرنسية عالمياً، علماً بأن الوسام مُنح لأدباء وفنانين عالميين كنجيب محفوظ وأنطونيو تابوكي وباولو كويلو وجاكي شان وجورج كلوني وفيروز وأمين معلوف، وكان أخيراً من نصيب أديبنا المقري.
ربما يجهل الكثيرون هذه الشخصية الثقافية اليمنية، باستثناء النخبة المهتمة بالأدب.. المقري بدأ في مطلع الثمانينيات تاريخه الإبداعي كمحرر صحافي ثقافي وناشط أدبي متميز، ثم انحاز للشعر متمسكاً بقصيدة النثر كقالب إبداعي يحتضن هواجسه الفنية وتوجهاته الثقافية، طُبع له أكثر من ديوان، لكن ربما استهواه السرد وأجبره على تجريب حظه الفني فيه ليفاجأ القراء بأول رواية له "طعم أسود.. رائحة سوداء" في 2008، التي تطرقت لقضية خطيرة الحساسية في المجتمع اليمني متمثلة في "المهمشين"، فلاقت الرواية صدى واسعاً محلياً وعربياً، وحفرت اسمه في قائمة الساردين العرب؛ ثم أتبعها برواية "اليهودي الحالي" في 2009، وكانت أكثر إثارة للجدل حد الصدمة، كونها أعادت للأذهان سيرة الجالية اليهودية اليمنية التي كانت تقطن منطقة "ريدة" في عمران، وكان المقري حذراً جداً؛ إذ ألصق حكايته بزمن ماضوي تاريخي تجنباً لأي تصادم مع رجال الدين والمتطرفين تجاه الأدب واليهود بشكل خاص.. وله أيضاً رواية "حُرمة" (2012)، "بخور عدني" (2014)، "بلاد القائد" (2019). ترجمت أعماله إلى الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والكردية وغيرها. وصل إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية في عامي 2009 و2011. كما حازت رواية "حرمة" بترجمتها الفرنسية على جائزة التنويه الخاص من جائزة معهد العالم العربي للرواية ومؤسسة جان لوك لاغاردير في باريس 2015، واختيرت رواية "بخور عدني" في القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد 2015.
تتسم أعمال علي المقري السردية بالتقاطها حكايات ذات بريق خاص، وتعالج نقاطاً جوهرية في صلب المجتمع والثقافة يمنياً وعربياً، حيث تلتفت للمنسي والمهمش وتستحضر المغيب والمتجاهل بجرأة واحترافية لم تألفها الرواية اليمنية، وهذه الثيمة وضعت علامات استفهام على رواياته، وأثارت ضجيجاً وسخطاً وانقسم قراؤها بين متقبل ورافض؛ كونها حركت المياه الراكدة في الوعي وفي الواقع، وأعادت تموضع بعض القضايا الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية، كاسرة بذلك هيمنة المركز وأحلت إشكاليات الهامش كبديل باعتبار النأي عنها وتجاهلها يبقي كثيراً من المعضلات عالقة ومتصلبة في نظرتنا لذواتنا وللحياة وللآخر، لتشكل رؤية إنسانية عامة تمجد الحب وتنبذ العنف وتؤيد الانفتاح والتعددية والقبول بالآخر رغم اختلافه عنا بشروط إنسانية وأخلاقية تعزز روح التعايش والتسامح وتقلص بؤر التطرف وتسدد فوهاته وأسباب نموه وترعرعه، كل هذه الأبعاد ستجد أن المقري يشتغل عليها في أعماله بروح مثقف عضوي ووعي وطني وانحياز كلي لقيم المساواة والعدل والنظم المجتمعية المتسامحة.
ويأتي حصوله على هذا الوسام استحقاقاً منطقياً وتكريماً ناله عن إبداع وتميز ودهشة في الفكر والوعي والمعرفة واللغة الإبداعية الآسرة التي جذبت قراء عرباً وأجانب بعد أن تُرجمت أعماله ووصلت إلى متناول القارئ في مجتمعات ذات لغات مختلفة وثقافات مغايرة وتمكنت من شد انتباههم لها والشغف بها ربما أكثر مما حظيت به في موطنه الأصلي اليمن.
هنيئاً لنا كمهتمين وباحثين من أبناء جنسه، أن ينال أحد أقلامنا الأدبية هذا التكريم ويعلي من شأن ثقافتنا وروايتنا اليمنية في المحافل الدولية كي لا ينسانا العالم ويغيب وجودنا في باله ويمحى يمننا من خارطة التميز والإسهام الإبداعي العالمي بعد أن غرقنا في مستنقع التلاشي والجمود.