ليس سهلًا أن ترى ثلاثة من أطفالك، يسقطون أمام عينيك، ويفارقون الحياة، بينما تقف على بعد خطوة منهم عاجزًا عن إنقاذهم، وتقديم المساعدة. لك أن تتصور هول الفاجعة، وحجم الحزن والألم الذي يرافق والدة حامد، حتى اليوم، ومعاناتها النفسية، وتدهور صحتها التي باتت تقرب من الموت.
 
في الثلاثين من أكتوبر 2021، غادر أولاد مصطفى علي الأربعة، بينهم حامد، من منزلهم الواقع في حي التوفير، شرق مدينة تعز ، متجهين نحو متجر المنطقة، لشراء الحلوى "السكاكر" كما يسميها البعض، وهناك سقطت قذيفة حوثية، بشكل مفاجئ، وبصورة عشوائية، على رؤوس الأطفال، وتسببت بوفاة ثلاثة منهم، وإصابة الآخر.
 
يتذكر مصطفى، لـ"2 ديسمبر": "كنت نائمًا في البيت، متعبًا إثر العمل في اليوم الأول.. سمعت أحدهم يناديني مستأذنًا الخروج إلى البقالة برفقة إخوانه.. كانت البقالة بعيدة إلى حدٍ ما من المنزل، سمحت لهم بالخروج مثل كل مرة، لكن هذه المرة كان خروجهم مُختلفًا.. مرت العديد من الدقائق، وصحوت على صوت أحد الجيران ينادي باسمي، قائلًا إن قذيفة سقطت على رؤوس أولادي".
 
يضيف: "في البداية صعقت لسماعي هذا الخبر المفزع.. سقطت مباشرة إلى الأرض، وقدماي لم تسعفاني في تحمل الموقف.. استعدت نفسي، وهدأت، ثم خرجت مسرعًا ذاهبًا إلى المستشفى، لأن أهالي المنطقة، كانوا قد أخذوهم إلى الصفوة".
لم يستطع الأب استيعاب ما شاهده على سرير المستشفى، من قطع وأشلاء جمعها الأهالي وسط حاوية قماشية، مضرجة بالدماء.. يتساءل: ما الذي حدث لهم، ولماذا تحولت أجسادهم إلى أشلاء، وهل ارتكب هؤلاء الصغار جرمًا ليُعاقبوا بهذه الطريقة؟!.. وكثيرة هي الأسئلة التي راودت فكر مصطفى، ولم يلقَ لها جوابًا حتى اليوم.
 
وفي حديثه يوضح: "تصور؛ ثلاثة أطفالي، لا حول لهم، ولا قوة، قُتلوا بهذه الطريقة البشعة، أما رابعهم فقد بُترت قدمه اليمنى.. هكذا هي أساليب القتل بطريقة مليشيا الحوثي في هذه المدينة.. وبهذه الطريقة اعتاد الحوثيون ذبح المدنيين والأطفال".
 
لحظات مؤلمة
 
في الوقت الذي حصلت الحادثة، كانت والدة الأطفال عائدة من المستشفى، وفي طريقها إلى المنزل؛ لكن القذيفة اعترضت مسار الصغار، لتصبح الأم، شاهدة على وحشية استهداف مليشيا الحوثي لأولادها الصغار.
 
تصف الأم اللحظات المؤلمة في حديثها للوكالة: "عندما سقطت القذيفة، رأيت أولادي في الأرض بصورة مؤلمة، ما زالت تمر في ذهني يوميًا، ولا يمكن نسيانها.. ومن شدة الخوف، كانت الطفلة تحاول الابتعاد عن مكان المجزرة، تزحف وتسقط جثة هامدة.. تجاورها جثتا طفلين، وأشلاء ممزقة حولهم".. 
 
تابعت الأم: "وحده الطفل الأصغر حامد، كان يصرخ هاربًا بقدم واحدة، وجسده مغطى بالدماء.. ينهض ثم يقع على الشارع.. حينها جاء أهالي الحي، وقاموا بإسعافهم".
 
من جهته، أوضح عبدالفتاح إسماعيل- شاهد على الحادثة- أنه رأى أولاد مصطفى يشترون الحلوى، أو ما تسمى بـ"الجعالة" في مدينة تعز، تتنوع بين مشروب العصير، والبسكويت، والحليب والطرزان، وغيرها من احتياجات الأطفال.. "كنت أمام بيتي، فجأة سمعت صوت قذيفة بالشارع.. ذهبت إلى مكان الواقعة.. عندما وصلت تسمرت في مكاني، وتصلب جسدي تأثرًا بمشهد الدماء والأشلاء.. شاهدت الضحايا، حيث كانت الطفلة تتحرك خوفًا من صوت الانفجار وتسحب أحشاءها خلفها.. وطفل بقدم واحدة وأخرى مكسورة، يحاول الهروب، لكنه يسقط أرضًا.. ينهض ثم يسقط مرة أخرى، وهو ما زال متمسكًا بقطعة من الحلوى".
 
وأشار الرجل: "توافد شباب الحي، والمسعفين من أفراد الجيش.. أخذوا الأطفال، وقالوا لنا ارجعوا بيتكم؛ خوفًا من سقوط قذيفة أخرى.. وقتها تفاجأت عندما رأيت والدة الصغار منهارة على الجانب الآخر، بعدما شاهدت حادثة استهداف أولادها، ومصيرهم الذي انقلب رأسًا على عقب، بثوانٍ معدودة".
 
وبحسب أحد المسعفين، فإن الأطفال الضحايا لم يتجاوز عمر أكبرهم عشرة أعوام، مضيفًا أنه ساهم بإسعافهم، وجمع الأشلاء المشتتة في مكان الحادثة.. "خلست قميصي بهدف جمع أشلائهم التي كانت عبارة عن لحم مفروم.. جمعت الذي أمامي، وانطلقت بالموتور نحو المستشفى، وهم جاءوا بالبقية".
 
مؤلمٌ، أن تكون شاهدًا على مقتل أولادك، بل أن تراهم يستنجدون بك والخوف قد تملكهم، لكنك لا تجد فرصة لإنقاذهم.. بهذه الكلمات المتقطعة، حاولت والدة الضحايا التعبير عن مدى حزنها، ووجع الفقدان، فضلًا عن أنها لا تتقبل فكرة الرحيل المفاجئ لأبنائها، والقصة الحزينة التي تجد نفسها غير قادرة على تجاوزها.
 
الدمار النفسي
من تدمير المنازل، إلى قصف الأحياء، وقتل الأطفال وقنص النساء، واستهداف المدنيين، وسفك الدماء.. كلها جرائم ترتكبها مليشيا الحوثي بحق إنسانية المدينة المحاصرة.. تبعًا لهذه الحادثة المفزعة، والمجزرة البشعة، تشكل رعبًا لدى ساكني الحي، وحالة خوف غير مسبوقة يعيشها البسطاء، كما خلفت ألمًا عميقًا، وحزنًا كبيرًا، ومعاناة لا تنتهي.
 
يشير عبدالفتاح إسماعيل إلى أنه لا يستطيع نسيان هذه الحادثة المرعبة، وما حصل لأبناء مصطفى.. "رائحة الدم بقيت عالقة في أنفي لمدة أسبوع.. اليوم، كلما أحاول أنام أتذكر موقف الأطفال، وكلما أقترب من إناء الطعام أو الشراب أشم رائحة الدم نتيجة تعرضي لهذا الموقف.. إضافة إلى أن "حامد" الطفل مبتور الساق، والذي يمر يوميًا أمامنا بقدم واحدة وأخرى صناعية، يذكرنا بمأساة حادثة الأطفال".
 
لقد تركت هذه الحادثة فراغًا كبيرًا في حياة الأسرة، وتسببت بالكثير من المتاعب والمعاناة.. وبحسب حديث الأهالي، فإن فقدان هؤلاء الأطفال بقذيفة حوثية، أمر انعكس سلبًا على ما تبقى من الإخوة، الذين تعقدت تصرفاتهم، وتدمرت حياتهم جزئيًا، نتيجة معاناتهم من الأمراض النفسية.
 
يشكو الأب، لـ"2 ديسمبر"، أن أسرته بجميع أفرادها باتت تعاني من الدمار النفسي، الممزوج باليأس من الحياة، وعلى مستوى الأطفال الصغار؛ فقد امتنعوا عن الذهاب للمدرسة، أو الخروج إلى الشارع، ناهيك عن الحالة النفسية التي تمر بها والدة الصغار.. "منذ الحادثة وزوجتي مريضة.. كنت قد عالجتها سابقًا من ورم في المعدة- حميد- لفترة تصل لسبع سنوات، وكانت قد تحسنت، لكن مع حادثة قتل الأطفال، عاد المرض مرة أخرى، نتيجة الحزن والاكتئاب.. الحوثي سبب لي مشكلة فوق المشكلة".
 
إلى جانب ذلك؛ يعتقد والد الضحايا بأن الفقدان كان، ولا يزال كبيرًا بالنسبة إليه.. وكيف لا يكون ذلك، وقد فقدت الأسرة في حادثة واحدة، ثلاثة أطفال، ورابعهم يعيش طفولة معاقة.. لقد كان هذا الطفل محظوظًا حينما نجا من الموت، وهو في السنة الثانية من عمره. 
 
بروح عصامية، وجسد ممتلئ بالشظايا، يكبر حامد، يومًا بعد يوم بقدم واحدة، وأخرى صناعية، لكنه ما زال يجهل سبب إعاقته، التي تتكفل بأن تروي له قصة الناجي الوحيد، من حادثة يمكنك تسميتها بـ"قتل الطفولة، وسلب الحلوى".

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية