"يدي مبتورة، وعيني اليسرى غير موجودة، وجسدي غارق بالشظايا.. أما نداء فقد كُسِرَتْ ساقها، وأصيبتْ بشظايا متطايرة من الانفجار".. بهذه الكلمات الحزينة، وعبارات الحال الموصوف بالألم، الممزوج بالحسرة والوجع بدأت الطفلة ندى منصور، في العاشرة من العمر، بسرد قصة شقيقتين، خرجتا بهدف جلب الحطب، لتتحولا بعدها إلى ضحية ثنائية بانفجار لغم زرعته مليشيا الحوثي عشوائيًا وسط أحياء تعز.
 
في سابع أيام أكتوبر من العام 2022، خرجت الطفلتان ندى، وشقيقتها نداء، تكبرها بستة أعوام، من المنزل الواقع في حي التوفير، شرق مدينة تعز، حيث اتجهت الصغيرتان نحو المنطقة المجاورة، بحثًا عن الحطب، ذلك البديل الأساسي لدى سكان المدينة المحاصرة، والذي ينوب عن الغاز المنزلي عندما تزداد الأزمة، أو ترتفع القيمة السوقية للأسطوانة الواحدة، فضلًا عن عشرات الأسر تسكن خطوط النار، وتعتمد بشكل رئيس على الحطب لتسيير حياتها اليومية.
 
تتذكر ندى لـ"2 ديسمبر": "يوم الحادثة كانت جمعة، وكان خروجي برفقة أختي الكبيرة، بغرض جمع كمية من الحطب اليابس، لأن الغاز معدوم.. نستخدم هذا الحطب في تجهيز الغداء، وتدفئة المياه وقت الحاجة.. يومها خرجنا في الصباح من أجل العودة إلى المنزل قبل الظهيرة، لنقوم بتدفئة المياه لوالدي الذي اعتاد الذهاب لصلاة الجمعة في مسجد المنطقة".
 
وتضيف الصغيرة: "قبل نزولنا المكان، التقينا بامرأة تسكن بالقرب من بيتنا.. سألتنا عن وجهتنا؟ أجبناها أننا سنحمل الحطب، ونعود إلى المنزل.. ثم تقدمنا خطوات معدودة حتى وجدنا كمية حطب قليلة.. قمت بسحبها، وفجأة انفجرت، وغابت عني ملامح الرؤية".
 
تابعت: "وجدت نفسي مرمية بالأرض، والدماء تخرج من عيني ويدي.. أتذكر كنت أصرخ بصوت عالٍ، ونداء بعيدة عني، كانت تصرخ من الخوف.. بعدها دوخت (دخلت بحالة إغماء)، ولم أعلم تفاصيل ما الذي حدث".
 
لم تعلم الصغيرتان أن مهنة جمع الحطب في زمن مليشيا الحوثي قد تحولت إلى مهمة مصيرية، بفعل سلسلة الألغام التي زرعها الحوثيون بصورة عشوائية في مناطق وأحياء تعز السكنية، وذلك لحصد أرواح المدنيين، وتحويل المجتمع إلى معاق.. وكثيرة هي قصص عشرات النساء والأطفال الذين تعرضوا لنفس الحادثة، فالجميع بات لا يعرف أيجمع الحطب، أم يجمع ما تبقى من حياته.
 
ندوب الحادثة
 
بعينٍ واحدة، وأخرى مصابة، ووجه مشوه بندوب الحرب، وأثر الشظايا.. بنصف يد، ونصف حياة، عادت ندى من مشارف الموت؛ فمن النادر أن تعود الضحية بعد انفجارها بعبوات الحوثيين، الذين يتفننون في صناعة مختلف أنواع الألغام القاتلة، لربما هي معجزة الخالق، والحماية الإلهية التي أرادت لهاتين الصغيرتين البقاء.. ومقارنة بمعاناة الطفلة ندى؛ فقد كان لشقيقتها الكبرى نصيب من حادثة الانفجار؛ إذ باتت اليوم تسير بقدم مكسورة، وشريان ممزق، وجسد تسكنه الشظايا، وتتوزع عليه الجراح.
 
تحدث منصور محمد، والد الطفلتين للوكالة: "كنت داخل البيت بانتظار عودة البنتين.. في البداية سمعت صوت الانفجار، وبدأت أشعر بالقلق والخوف على ندى ونداء.. بعد دقائق جاء أحد الجيران يقول لي اللغم انفجر، وأصاب البنتين.. خرجت من المنزل مُسرعًا إلى مكان الحادثة، ووجدت ندى بأيدي أحد الشباب، يجري بها نحو الباص.. كانت الدماء تغطي وجهها وجسدها، ويدها اليمنى معلقة كأنها مكسورة، لكنها تهشمت بالكامل".
 
يستطرد الرجل: "مجموعة الشباب المسعفين، كانوا يقولون، انزل جيب الطفلة الثانية بسرعة، نزلت ورأيت نداء ملقاة على الأرض، فاقدة الوعي وكلها دماء.. حملتها إلى جوار شقيقتها، وتحركنا إلى مستشفى الثورة".
 
من جهته، يقول أحد المسعفين: "وصلنا مستشفى الثورة، أوقفونا وما سمحوا للباص يدخل، قالوا ممنوع الدخول.. وبعد أخذ ورد، وحديث مع والد الفتاتين، سمحوا لنا بالدخول إلى قسم الطوارئ فقط.. كان الأب يصرخ في بوابة المستشفى والدموع تتساقط.. يسأل الحراسة أين نذهب، جئت إلى هنا، بحكم أنه مستشفى حكومي. لا عندي راتب، ولا أمتلك مصدر دخل".
 
ويشير في حديثه: "بعد ذلك، تطورت حالة ندى، في طوارئ مستشفى الثورة العام، ليقوم والدها بنقلها إلى غرفة عمليات مستشفى الروضة الخاص.. ثم نقلنا نداء لتدخل غرفة العمليات بجوارها.. ونتيجة الإصابات والشظايا، بقى الأطباء في غرف العمليات حتى الساعة 12 ليلًا.. وبفضل منظمة حقوق الأطفال تكفلت بالعلاج".
 
اليوم، وبعد مرور أشهر من وقوع الحادثة، تبدو الصغيرتان بملامح حزينة، فالإعاقة تمنع ندى من مشاركة صغار الحي مختلف أنواع الألعاب الشعبية؛ إذ باتت تكتفي برؤية محيطها من بعيد بعين واحدة، وبصورة غير واضحة، وكذلك نداء، التي لا تستطيع السير دون الاستناد لعكازة صناعية.. هكذا حرم الحوثيون الأختين مرح الطفولة، تلك المليشيا التي اعتادت إعاقة أطفال تعز قنصًا، وبترًا بالألغام، وتعطيل حياة الكثيرين.
 
نزوح إجباري
 
في حي الأربعين، وسط المدينة، كانت تسكن أسرة ندى قبل بدء سنوات حرب الحوثيين، حيث كان يعمل والدها في مجال التعليم؛ لكن تلك المنطقة تحولت إلى خط تماس، وساحة مفتوحة لقناصة الحوثي، الأمر الذي أجبر الأسرة على مغادرة المنزل إلى منطقة التوفير، الواقعة ضمن خطوط النار شرقي المدينة.
 
يوضح الأب: "كنت أسكن في خط الأربعين، وبسبب القنص العشوائي والقصف بالقذائف، نزحنا هربًا من الموت.. لجأنا إلى هذا المنزل في خط النار أيضًا؛ لأن السكن في المدينة يحتاج إلى تكاليف شهرية، وحالتي المادية صعبة.. لا أقدر على دفع إيجار شقة، لذا سكنت مع أطفالي في خطوط التماس بالرغم من خطورة الوضع".
 
وبحسب الرجل، فإنه يحاول التكيف مع الحال والمكان؛ نظرًا لأزمته المالية، وصعوبة ظروفه المعيشية، كما يصعب عليه تقبل مصير الطفلتين.. "كانت الحادثة بمثابة صدمة الإصابة، وفرحة البقاء على قيد الحياة.. لكن مع مرور الأيام بدأت أشعر بالتعب والحزن، عندما أشاهد كيف تأثرت الطفلتان، وتغيرت حياتنا.. أصبح الخوف والقلق يسيطران علينا كلما سمعنا صوت رصاصة أو قذيفة، ومع ذلك لم نجد أمامنا حلًا سوى البقاء في خطوط النار".
 
هكذا تصير خطوط التماس، ومناطق الحرب موطنًا لنزوح الأسر الفقيرة، لتبقى على موعد يومي مع الموت، أو الإعاقة، دون خيار ثالث.. وكثيرة هي قصص المعاناة في المناطق القريبة من خط النار بتعز، وكثيرون هم الضحايا المدنيون الذين سقطوا خلال السنوات الماضية، وسط المدينة.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية