الدكتور صادق القاضي يكتب لـ" 2ديسمبر": عندما يتحدث "الإمامي" عن "التجربة الجمهورية"!
ليس أيّ كلام مطبوع مجموع بين غلافين يمثل كتاباً، أما إذا كان هذا الكلام المطبوع يفتقر للحد الأدنى من قيم ومقومات وشروط الكتابة والتأليف، فإنه لا يزري بكاتبه فقط، بل إن تناوله يُعد انتكاسة للناقد الذي يلتفت إليه ويتناوله، ويتنافى مع جدية ورزانة النقد.
ومع ذلك سأغامر في تناول لفافة من هذا النوع، وعذري أن الخطاب الحوثي الخطر على شرائح معينة، هو بمجمله توليفات ضحلة سطحية متهافتة بهذا الشكل. بداية من ملازم حسين الحوثي، وصولاً إلى توليفة قصيرة من 28 صفحة، من القطاع الصغير، بعنوان "الجمهورية المزعومة في اليمن"، لصاحبها جمال الشامي، 2017م.
لا مشكلة في لقب "الشامي"، كلقب لأسرة تنتمي إلى سلالة تمثل العمود الفقري للجماعة والحركة الحوثية الإمامية، فليس كل من ينتمي لهذه السلالة إمامياً بالضرورة، وإن كان هذا اللقب له دلالته على موقف ودوافع صاحبه في هذا المقام، والمهم هنا هو هذه اللفافة كعينة عشوائية لهذا الخطاب الحوثي، من حيث الشكل والمضمون، والمنهج، وطريقة الاحتجاج وإصدار الأحكام.
بدايةً بالغلاف، تربعت مفردة "الجمهورية" في الصدارة، بلون أحمر دموي وبخط متعرج مضطرب، وكذلك بقية العنوان، بخط معوج متكسر مفكك بلون أسود، بما يوحي بالخطر والتشوه والعنف والدموية التي اتسمت بها التجربة الجمهورية في اليمن، حسب تصورات المؤلف.
هكذا تحيل العتبات الأولى لهذا العمل إلى نوعية المضمون الذي هو إجمالاً هجوم شرس على ثورة 26 سبتمبر، ومحاولة لتشويه رموزها وتاريخها، وما يعني في المحصلة أن الانقلاب الحوثي كان بمثابة إنقاذ لليمنيين من هذه التجربة الجمهورية، والنظام الجمهوري!
قبل مناقشة الحيثيات والمعطيات ذات العلاقة.. بدأ الرجل بإطلاق الأحكام التعسفية، منحازاً للنظام الإمامي كنظام مثالي مغدور به، من قِبَل "السلال"، قائد الحرس الملكي الذي خان وظيفته، وانقلب على سيده!
إذن؛ فقد بدأ العهد الجمهوري بخيانة، حسب رأي المؤلف الذي لا يأبه بكون هذا الرأي يعني أن كل ثائر أو مصلح في التاريخ هو خائن للنظام الاستعماري أو الاستبدادي الذي عاش في ظله، وأن الصفة التي تصح على "السَّلال" تنطبق أيضاً على أنبل الثوار وأعظم زعماء التاريخ السياسي في العالم!
دخولاً في النشأة الجمهورية، يذكر المؤلف أن ثورة 26 سبتمبر اقترنت، منذ البدء، بالدموية والقمع والتنكيل بالخصوم، وحتى برفاق الثورة.. كتب الكثيرون، بمن فيهم البردوني، الكثير عن هذه النقطة المؤسفة التي بالغ الشامي في تصويرها في مقابل تجاهله التام بأن الأئمة قتلوا حتى إخوتهم، ونكلوا حتى ببعض أبنائهم من أجل السلطة، فضلاً عن القتل والتنكيل بغيرهم من خارج الأسرة الحاكمة، وعلاوة على التاريخ الدموي العنيف للجماعة الحوثية.. لقد بلغت الخيانات والإعدامات وأعمال القتل والتنكيل بالأبرياء والخصوم والشركاء في عهد الحوثي حداً لم تبلغه طوال التاريخ اليمني كله!
لسخرية الحال، تحدث الشامي أيضاً عن تبعية جمهورية السلال لمصر، وأضاف: "صُنع العلم الجمهوري بأيد أجنبية"، ولتأكيد هذه النقطة، أو للإيحاء أنه على معرفة جيدة بها، أو أنه غير سهل ومطلع على مراجع أجنبية، استشهد بكتاب، "مهمة في الجزيرة العربية" لـ"دايفد سمايلي"..
لمن لا يعرف، لم يكن "دايفيد سمايلي" مؤرخاً متخصصاً مرموقاً أو غير مرموق، وأكثر من ذلك لم يكن يقف خارج دائرة التحيزات اليمنية؛ فقد كان جندياً مرتزقاً استأجرته عمان ضد السعودية، ثم قاتل مع الإماميين خلال حروب الثورة اليمنية في ستينيات القرن الماضي.
ألّف سمايلي هذا الكتاب أصلاً، خصيصاً لقصة عمله مرتزقاً في الجزيرة العربية لأكثر من طرف، وتحدث فيه بصراحة عن ارتزاقه، بل ووضع للارتزاق شروطاً وآداباً، كما كتب عن الأسرة المتوكلية الحاكمة التي عرفها عن قرب، بمن فيها البدر، وعن تبعيتها.
بطبيعة الحال، غض الشامي نظره عن هذه التبعية الإمامية المهينة، التي اعتبرها من المآخذ القاتلة فقط للنظام الجمهوري، بنفس طريقة تغاضيه عن تبعية جماعته لإيران منذ تشكلها حتى اليوم، بدءاً من الصرخة الحوثية التي لم تكن جزءاً من النشيد الوطني للملك الحميري أسعد الكامل، بل صرخة زعيم النظام في إيران، الخميني!
ذكر المؤلف أيضاً أن النظام الجمهوري في اليمن نشر العنصرية السلالية، والفتن الطائفية، والحروب القبلية.. وجعل الشعب متخلفاً بلا مؤسسات ولا بنى تحتية في القضاء والتعليم والصحة.. وغيرها من التهم الجزافية التي لا تحتاج لمناقشة، فلم يفعل الرجل سوى أن حمل عاهات النظام الإمامي، وعاهات جماعته، وألقاها بسهولة مريحة على النظام الجمهوري!
نعرف جميعاً أن ثوار 26 سبتمبر 1962م، لم يثوروا على نظام تقدمي ينتمي إلى ما بعد الحداثة، بل على نظام رجعي ينتمي إلى ما قبل القدامة، كانت اليمن في عهد الإمامة إحدى آخر قلاع التخلف والكهنوت في العالم، يحكمها الجهل والفقر والمرض، وتحصدها المجاعات بشكل دوري، وسرعان ما انتقلت في ظل النظام الجمهوري، خلال سنوات وعقود قليلة من بلد يعيش في العصور الوسطى إلى بلد يعيش في العصر الحديث، مهما كان القصور في هذا المقام.
وصولاً إلى قضية "التوريث"، وبغض النظر عن الانتهازية التي تم توظيف هذا العنوان فيها من قِبل أطراف أخرى، نحن هنا أمام مفارقات تنطوي على أسئلة طافحة بالسخرية:
- ما الذي يجعل التوريث خطراً بالنسبة لشخص يؤمن بالتوريث، وينتمي إلى حركة محكومة بالتوريث، ضمن طائفة تقدس التوريث، بتاريخ كله توريث، كمبدأ مقدس لتداول السلطة، وفق الأحقية الحصرية المطلقة بالملك لسلالة واحدة، داخل البطن أو البطنين؟!
- هل التوريث حرام على الرئيس الجمهوري، وحلال للإمام الزيدي؟!
- ثمّ، أليس من اللافت أن الحوثي الراحل عبد الكريم الخيواني- وليس شخصاً آخر يغار على المضمون الديمقراطي للنظام الجمهوري- هو أول من أثار قضية التوريث استناداً على تخميناته الغلوطة لنوايا الرئيس صالح؟!
- ثمّ، هل كانت قضية "التوريث" عبارة عن هدية حوثية مفخخة للجمهوريين، لتفجير النظام الجمهوري من الداخل؟!
في كل حال، هذه هي فحوى "الجمهورية المزعومة في اليمن"، ورؤية مؤلفه التي ارتكزت في قراءتها للتاريخ، والمقارنة بين النظامين الإمامي والجمهوري على:
- اختزال التجربة الجمهورية في الجوانب السلبية لها، واختلاق أو المبالغة في هذه السلبيات!
- الاستناد في مدح النظام الإمامي على الروايات والأخبار الفردية الشفاهية، التي يتعسفون في المبالغة بها، أو اختلاقها!
- المقارنة بين النموذجين، وأحياناً مقارنة النموذج الجمهوري اليمني، بنظائره في الدول الغربية الحديثة، مع ما تنطوي عليه هذه المقارنة من تعسف، فلكل بلد ظروفه وشروطه الخاصة!
- توجيه المعطيات المصنوعة، لخدمة حكم محدد وجاهز سلفاً، يتضمن إدانة النظام الجمهوري.
وفي المحصلة: الخروج بنموذجين: نموذج جمهوري سيئ، ونموذج إمامي حسن. أما الهدف الأهم لهذا الخطاب، والخطابات والظواهر الدوغمائية برمتها فيتلخص بتبرير الإطاحة بالنظام الجمهوري، وشرعنة الانقلاب الحوثي عليه، على الأقل في الوعي العام، كبديل جديد واعد لنظام رديء فاشل!