الدكتور ثابت الأحمدي يكتب: عظماء اليمن.. وسيف الإمامة
ثمة ملمحان مهمان، ملفتان للنظر في تاريخ النضال اليمني ضد سلالة الكهنوت الإمامية منذ ورود إبراهيم الجزار إلى اليمن، داعية لابن طباطبا، قبل مجيء يحيى حسين الرسي بما يزيد عن ثمانين عاما.
الملمح الأول: أن الثقافة اليمنية ثقافة مُقاومة، ومقاومتها تعود لأصالتها التاريخية وهويتها الحضارية الضاربة بجذورها لآلاف السنين. نعم ثقافة مناوئه ومقاومة لهذا الفكر الدخيل، لا على اليمن فحسب؛ بل على المنطقة العربية؛ إذ أن فكرة الاصطفاء والحق الإلهي لا وجود لها أساسًا في الثقافة العربية السائدة قبل الإسلام في منطقة الجزيرة العربية، ولا في الفكر الإسلامي الصحيح نفسه؛ ففكرة الاصطفاء والحق الإلهي "الولاية" خليط من أفكار هندية فارسية قديمة، اعتنقها الإخمينيون والساسانيون في فارس، وتسللت إلى الجزيرة العربية بعد عصر الفتوحات الإسلامية، أو بالأصح تم تسويقها عمدا. ومنذ مجيء إبراهيم بن موسى الجزار، المُشار إليه آنفًا وحتى اليوم والمقاومة اليمنية على قدم وساقٍ لم يخبُ أوارها، أو تتوقف يوما واحدًا. وقد كان الفارس والشاعر اليمني الكبير أحمد بن يزيد القشيبي "الثاني" أولَ فارس يمنيٍّ واجه الإمامة في اليمن، ممثلة في "الجزار" الذي أخرب سد الخانق في صعدة وأحرق مزارعها، كما فعل أخوه زيد بن موسى في البصرة، إذ أحرق ديار أهل البصرة، لرفضهم مشروع "ابن طباطبا" فلُقب بـ "زيد النار". وتتالت عملية الرفض المجتمعي لهذه الفكرة الطائفية المتسللة، ابتداءً بالمؤسس الأول لمداميك النضال اليمني أبي محمد الحسن بن أحمد الهمداني، ثم نشوان بن سعيد الحميري، ثم حركة المطرفية، ثم حركة الإصلاح الديني التي مثل الإمام الشوكاني إكليلها الباذخ، ثم حركة المقاومة والنضال في القرن العشرين التي تبدت في بواكيرها الأولى على يد: المطاع والوريث والزبيري ونعمان والإرياني، وانتهت ثورية على يد الثلايا، ثم علي عبدالمغني والسلال وجزيلان والعواضي وغيرهم.
إنها سلسلة طويلة من شهقة نضالية حادة لم تسترجع زفيرها حتى اللحظة. وعليه نستطيع القول: إن أطول قصة نضال وطني عبر التاريخ على الإطلاق هي قصة نضال اليمنيين واليمنيات؛ إذ لم يتوقف شلال الدم سنة واحدة عدا فترة حكم الزعيم اليماني الراحل الشهيد علي عبدالله صالح. وهاتوا لي إماما واحدًا خلت فترته من الدم؛ إذ ما من إمام إلا ويبدأ حكمه بالسيف وينتهي بالسيف، وما بين سيف البداية وسيف النهاية آلاف السيوف المشرعة، التي أسالت الدماء وكوّمت الجماجم. وما من إمام من أئمتهم الطغاة إلا وخرجَ على من قبله، وخرج عليه مَن بعده، في سلسلة دموية طائشة لم تتوقف حتى اللحظة، ولا غرابة في ذلك أصلا؛ لأن النظرية في أساسها نظرية فوضوية كهنوتية، تشترط ــ فيما تشترط ــ على كل إمام أن يشهر سيفه، ليصبح شرعيا على كرسي الحكم..! فهل رأيتم جنونا كهذا؟!
الملمح الثاني: إن كثيرا من عظماء اليمن ورجالها الأحرار قد انتهوا قتلا من قبل هذه الجماعة السلالية البغيضة؛ إما بالسم، كما فعلوا مع الثائر اليمني الأول علي بن الفضل الحميري الخنفري الذي تكالبوا عليه، وشنوا عليه حملات التشويه والزيف والإشاعات الكاذبة التي انطلت للأسف على كثير من عامة الناس، وربما مثقفيهم، وإما بالقتل المباشر كما فعلو مع كثيرين، كما سنرى.
ابتداءً كان رأس الفارس اليماني الأول أحمد بن يزيد القشيبي على وشك أن يطير رأسه، وقد وقع في الأسر لولا تخلصه منه بأعجوبة في منطقة ريدة. ولولا وفاء وشهامة أحد أصدقائه الذي ساعده على الإفلات من قبضة "الجزار" لكان طار رأسه ضمن الرؤوس الأخرى التي طارت آنذاك.
وهكذا تتالت المؤامرات والدسائس تجاه علامة اليمن الأول الحسن بن أحمد الهمداني الذي لاقى من نجل الرسي صنوف العذاب، وتجاه المجدد الديني القيل اليماني نشوان بن سعيد الحميري، ثم رجالات المطرفية الذين أبادهم المجرمان الطاغيتان: أحمد بن سليمان وعبدالله بن حمزة في القرن السادس الهجري، وغيرهم من أقيال اليمن وأذوائها وزعمائها.
في القرن العشرين قضى أبرز رجالات اليمن الأحرار نهايتهم تحت سيف بيت حميد الدين، ابتداء بالشهيد أحمد المطاع أول معارض سياسي علني منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، مرورا بالمسمري والحورش والعنسي والموشكي والقردعي والوجيه وعزيز يعني وعبدالوهاب نعمان وغيرهم عقب الثورة الدستورية في 48م. كان هؤلاء هم خيرة رجالات اليمن وأحرارها وأبرز رموزها السياسية والاجتماعية والثقافية. وتتالت عملية حصد الرؤوس بعد ذلك من قبل كرادلة هذه السلالة حتى ما بعد ثورة سبتمبر.
في العام 1962م قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وكان تنظيم الضباط الأحرار رأس حربة الثورة الشعبية العارمة، بزعامة علي عبدالمغني، ثم جزيلان والسلال والعواضي والإرياني وغيرهم. فارتدت عصابة الكهنوت الإمامة في ثورة مضادة لثورة الشعب، لتمارس هوايتها المفضلة في القضاء على أبرز رجالات الوطن الأحرار، واستطاعت تحقيق ذلك فعلا، فقطفت رأس البطل علي عبدالمغني، والثائر الشهيد علي محمد الأحمدي أول وزير إعلام بعد الثورة، وأول قارئ لبيان الثورة باللغة الإنجليزية من إذاعة عدن، وتتالت عملية الاغتيالات حتى كان أبرز رأس منها رأس أبي الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري رحمه الله الذي اغتاله محمد بن الحسين، المتربص آنذاك كأفعى غبراء في صحارى الجوف، وزاد أن غطى على الجريمة أحد من يعتبر نفسه صديقا للشهيد، بإطلاق القتلة من السجن مقابل ما خف وزنه وغلا ثمنه، بحسب إشارة الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني في مذكراته.
صالح.. زعيم يماني في موكب الأحرار
كان انقلاب 21 سبتمبر 2014م الإعلان الأخير لفصل من فصول المؤامرة على الوطن، ابتدأ مشهده الأول سرا في سبعينيات القرن الماضي، في الوقت الذي كان الشعب يرى أن هذه العصابة قد "تيمننت" وقد تطبعت مع النظام الجمهوري الجديد، وصارت جزءا من النسيج الاجتماعي اليمني، ولكن...!
في الواقع لم يكونوا إلا أفاعٍ سامة، تسللت بين ندوب وشروخ خلافات الصف الوطني، لينقضوا في لحظة ضعف على النظام، وعلى مؤسسات الدولة التي بناها اليمنيون خلال نصف قرن كامل، والحقيقة أنه لولا تلك الخلافات والتصدعات داخل بنية الصف الجمهوري لما استطاعت هذه الأفاعي التسلل وإعلان فحيحها بخبث ماكر، فشردت أغلب اليمنيين وقتلت أبرز رموزهم، واعتقلت منهم الكثير، بنفسية المنتقم الحاقد.
وقد كان الزعيم اليماني الشهيد علي عبدالله صالح أبرز شهداء الإمامة الجديدة/ القديمة في 4 ديسمبر 2017م، عقب خطبة ثورية دعا فيها الشعب للثورة على هذه العصابة واستعادة دولته ومؤسساته؛ بل واستعادة كرامته المهدورة، ملتحقا بكوكبة الشهداء الأحرار الذي طالتهم سيوف الإمامة من قبله، في عملية غدر جبانة أذهلت الكثير. والواقع أن هذا دأبهم وديدنهم، ولا غرابة لدى هذه الجماعة المرتهنة في سياستها إلى إيران الخمينية. فالشهيد صالح ليس أول زعيم يماني تغتاله هذه العصابة السلالية، ولم يكن الأخير أيضا، وعلى أية حال فسيأتي اليوم الذي تدفع فيه هذه العصابة فاتورة دم أحرار اليمن وعظمائها منذ علي بن الفضل الحميري وحتى آخر شهيد.
الوصايا العشر.. خارطة طريق
في الواقع استشهد الزعيم؛ لكن أفكاره ووصاياه لا تزال سارية لدى أتباعه ومحبيه على طول اليمن وعرضها، وستظل وصاياه الأخيرة خارطة طريق للأحرار من أبناء الوطن، إن عاجلا أو آجلا، ولن يطول الزمن كثيرا حتى يثأر الشعب من جلاديه، ويقتص لزعيمه الذي يُعتبر جزءا من تاريخه السياسي الحديث، بما له وعليه، وقد واصلَ بناء الجمهورية واستعاد الدولة اليمنية، وسلّم عَلَمَ اليمن الجمهوري موحدًا لخلفه الرئيس عبدربه منصور هادي، ثم غادر للتو إلى منزله مواطنا بسيطا كأي مواطن يمني، حتى طالته رصاصة الغدر وهو يدافع عن نفسه داخل منزله، ويكفيه أنه انتهى شهيدا على يد هذه العصابة، في موقف بطولي، كأنه "الساموراي"، كما استشهد الرئيس صدام حسين رحمه الله على يد بني عمومتهم بالعراق، وكلا الزعيمين على قدرٍ عالٍ من الحضور الجماهيري الكبير في وطنيهما.
والآن.. هل عرف الشعب اليمني أعداءه التاريخيين؟ وهل عرف كيف انتهت رموزه الوطنية الكبرى؟ وهل سيهبُّ للثأر لكرامته؟ هذا ما يسعى له الشعب اليمني اليوم، وسيقول كلمته الفاصلة غدا، وإن غدا لناظره قريب.
