- لأكثر من سنة لم تدخل بيتي تفاحة واحدة أو برتقالة
 
لم يحتفل المعلم اليمني عبدالجليل محمد، باليوم العالمي الخاص بالمعلمين، والذي يحتفي به غالبية الأساتذة في مختلف دول العالم؛ لكن في اليمن، يبدو أن الحرب قد سلبت هؤلاء المعلمين فرحة عالمية، فالخامس من أكتوبر عند عبدالجليل ليس مناسبة تستدعي الاحتفال، إذ يكتفي بقضاء يومه بالعمل الشاق لتوفير متطلبات الحياة، واحتياجات المعيشة.
 
عمل عبدالجليل في مجال التربية والتعليم لمدة تقارب الثلاثين عامًا، كمدرس لمادة الجغرافيا، في مدرسة للتعليم الأساسي بمدينة تعز. القريب من الرجل، سيجد فارقًا كبيرًا بين حياته قبل سنوات الحرب، وما يحدث اليوم.. كان يوصف بالمعلم المخلص لطلابه، الحاضر يوميًا، والملتزم بدوامه، لا يبدأ صباحًا إلا برسم خريطة الوطن على جدران الفصول، وتوعية الصغار وتعريفهم بأهمية جغرافيا الأرض؛ أما اليوم فقد تبدل الحال، وتحول الرجل من معلم إلى سائق دراجة نارية في زمن حرب الحوثيين على البلد.
 
يقول عبدالجليل لوكالة "2 ديسمبر": "عملتُ في مجال التربية والتعليم من تسعينيات القرن الماضي، منذ عام 93 وأنا أدرّس الطلاب في مدينة تعز.. التعليم في البداية كان له هيبته، والمعلم له قيمة أيضًا، وكذلك الراتب يكفي وبزيادة.. من الراتب تزوجت، وكونت أسرة وبيتًا وأولادًا.. عاد الدنيا كانت بخير".
 
يستطرد: "لكن اليوم الراتب لا يكفي إيجار البيت.. راتبي يصل إلى 85 ألف ريال يمني، تصور مستأجر شقة بمبلغ مائة ألف، وعاد مالك العمارة يشتي أكثر.. وعندي ثلاثة أولاد في المدرسة، كل واحد بحاجة رسوم ومصاريف يومية، هذه الأمور لوحدها، باقي احتياجات المنزل، والمعيشة والطعام والشراب.. ما الحل؟ كيف أوزع الراتب على كل هذه المتطلبات؟!".. يتساءل بحسرة.
 
بديل متعب
 
يعيش عبدالجليل حالة من الكفاح، في سبيل تأمين لقمة العيش، وذلك بعد أن ساءت ظروفه، نتيجة غلاء المعيشة، وارتفاع الأسعار، الأمر الذي جعله يلجأ إلى العمل بدراجته النارية: "أحيانا الظروف تجبرك تشتغل في أي مهنة، حتى وإن كانت فوق استطاعتك.. زوجتي باعت الذهب، واشترينا موتور، أشتغل به مشاوير بشوارع المدينة، وبعد فترة، أخذنا هذا الجمباز، لعبة القفز الخاصة بالأطفال، يرجع أولادي من المدرسة، ويطلبوا الله.. نحاول ندبر أمورنا".
 
يتابع الرجل: "تخيل إذا اتصل لي زبون، وأنا في حصة التدريس، أترك الطلاب داخل الفصل، وأخرج عشان ألاقي ألف ريال، لأنه ما بقدر أوفر العيشة لي ولأولادي بـ85 ألف ريال.. أضطر أترك المجال التربوي، وأخرج أشتغل.. صحيح أن التدريس أمانة، لكن مضطر أشقي، والله عالم بحالي".
 
يعجز هذا الرجل عن تغطية تكاليف حياته اليومية من مرتبه الوظيفي؛ لذا اتجه إلى البحث عن وسائل بديلة، واللجوء إلى مهنة أخرى يستطيع من خلالها تأمين دخل بسيط، يساعده على البقاء والتعايش مع الواقع والأزمة المعيشية التي أفرزتها حرب الحوثيين.
 
رفيق المعاناة
 
غالبًا، يفكر عبدالجليل، بترك مهنته في التدريس، طالما تفشل وظيفته الحكومية في تلبية ما تحتاجه أسرته من متطلبات يومية، واحتياجات أطفاله؛ لكن يبدو أنه لم يجد البديل الذي يخلصه من عنائه، ومتاعبه في تعليم طلاب المرحلة الأساسية جغرافيا الوطن وحدوده.
 
سألناه: "هل تفضل التدريس أم العمل بالدراجة؟".. رد بتهرب: "أنا مدرس، لا أقدر على هذه الأعمال، والأمور.. المدرس اعتاد على مهنته، داخل رأسه الطبشور والقلم.. أنا لا أفكر أحمل حتى حجرة واحدة، أو بلكة، ولا أستطيع من ألم ووجع عمودي الفقري؛ لكن الظروف التي نعيشها أجبرتنا أتحمل موتور، وكأننا أحمل جبل.. مرة يخرب بوادي القاضي، ومرة يتعطل في بئر باشا.. أروح للمهندس، وأرجع البيت عطل، جيبي فاضي، ولا معي حتى ريال".
 
تابعنا بسؤال: "كيف أثرت حرب الحوثيين على المعلم اليمني؟". أجاب بتعجب: "كيف ما أثرت.. الآثار يمكنك رصدها بالواقع، كيف واقع المعلمين في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثي؟ غالبية المدرسين بإب وصنعاء بدون رواتب.. أما نحن في مناطق الحكومة، فيكفي أن تعرف الحصار الذي نعيشه، منذ ثمانية أعوام.. بسبب الطريق من عدن إلى تعز، ووعورتها صارت الدبة الغاز هنا بسعر مضاعف.. المواد الغذائية، والملابس، والفواكه، كل شيء عندنا بزيادة، وهذه هي المعاناة الحقيقية..".
 
يلتقط نفسًا ويتابع قصته الحزينة: "تصور، لأكثر من سنة لم تدخل بيتي تفاحة واحدة، أو برتقالة.. ما أعرف الخضروات والفواكه من فترة، هذه تعتبر أشياء بعيدة عن مستوى دخلنا.. نعيش على الحاصل، نأخذ لنا بطاط، وجبتنا الرسمية، وأشياء ضرورية، غيرها ما نقدر.. حالتنا متدهورة، والشكوى لله".
 
يحاول الرجل التمسك بوظيفته، كمصدر دخل رئيس، إضافة إلى عمله الشاق والمتعب، حد وصفه، حيث يرى أن المعلم اليمني، هو رفيق المعاناة، والصبر، يقول عبدالجيل: "أحمد شوقي، وصف المعلم أو شبّهه بالرسول، لمكانته ومنزلته وأهمية وجوده في المجتمعات.. نأتي للمعلم اليمني، والمعاناة التي يعانيها، سنجد أنه أكثر تحملًا وصبرًا وسط أوضاع بلد يعيش الحرب والدمار منذ سنوات.. قد يأتي لك طالب مسلح يضربك، أنت كمعلم تربوي، ماذا ستفعل؟! بكل الخيارات أنت خسران".
 
وعن دور المعلم، وأهمية التعليم في بلد كاليمن، يلفت عبدالجليل: "التعليم واجب علينا تجاه أجيالنا الناشئة، هو أداة ترميم لما تحدثه الحروب.. الحوثي يحارب التعليم، لماذا؟ لأن التعليم بدأ من بعد ثورة 26 سبتمبر، والحوثي يريد إعادتنا إلى ما قبل سبتمبر، لكن بصبرنا وبقوة إرادتنا، وتعاوننا سنقوى على الظروف، وسننتصر على هذه الإمامة".
 
عبدالجليل، ليس إلا واحدًا من مئات المعلمين اليمنيين الذين جرفتهم الحرب، ودفعتهم الظروف إلى البحث عن مصادر رزق بديلة، بعيدًا عن مهنتهم الأساسية، وذلك من أجل توفير مصدر دخل يمكّنهم من إعالة أسرهم؛ فالمعلم اليوم عامل في مختلف المهن التي تكفل له البقاء.. يُعاني، يتحمل، ويستمر في العمل ضمن مهن شاقة ومتعبة.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية