فيديو| من فرحة إلى مأتم: "دليلة".. عروس ألغام الحوثي في تعز
"يوم عرسي، انفجر بي لغم أرضي بالشقب.. لقيت نفسي مرمية على الأرض بساقين مبتورين.. الحوثيون بتروا حياتي، أصبحت معاقة لا زوج، ولا أقدام".. بهذه المفردات المليئة بالألم والوجع، تلخص الشابة اليمنية دليلة أحمد، قصتها الحزينة، وكيف حوّل الحوثيون حياتها إلى جحيم مقيم ومعاناة لا تنتهي.
دليلة، فتاة في العشرينيات من العمر، كانت أواخر العام 2017 تتهيأ للذهاب إلى منزل عريسها وسط عرس شعبي، وفرحة اعتادها المجتمع اليمني منذ زمن، في مختلف مدن البلد.. في ذلك اليوم كانت منطقة الشقب التابعة لمديرية صبر، شرقي مدينة تعز، تقيم طقوس الفرح لدليلة، وبدأت النساء بإطلاق العنان لصوت الزغاريد المصاحبة لخطوات العروسة الشابة؛ لكن ثمة من أطفأ هذا المشهد الفرائحي، وحوله إلى مأتم، وعزاء دائم.
بنبرة حزينة، تتذكر دليلة، في حديثها لـ"2 ديسمبر": "كنا نحتفل بيوم زواجي، في بيتنا بالشقب، خرجت من البيت والأهل يزفوني، واثنتين من بنات عمي بجواري، لكن مليشيا الحوثي كانت قد زرعت الألغام حول المنزل، رغم أن بيتنا بعيدة عن الجبهة.. جاء اللغم حظي، انفجر بنا، وفقدت أرجلي الثنتين، أما بنات عمي فقدن من ساق واحدة.. ثلاث معاقات من أسرة واحدة".
في زمن المليشيا، لا يمكن للفرحة أن تكتمل، فبدلًا من أن تنتقل دليلة إلى مسكنها الجديد، جرى إسعافها إلى مستشفى البريهي، وهناك تلقت الرعاية الصحية.. في غرفة العمليات، اجتمع فريق من الأطباء والمختصين لعمل تسوية لمناطق البتر في أقدام الضحايا الثلاث.. تتابع حديثها: "بعد الانفجار دخلت بغيبوبة، صحيت وقت خرجونا من العمليات.. تخيل وأنا أرتدي ملابس العرس، والناس كانوا يصوروني، والعالم كله يشوف، وبالتلفزيون يشوفوا عروسة جاهزة بكل شيء، داخل المستشفى.. قصتي مأساة".
عروسة يمنية، ترتدي فستانها الأبيض في غرفة العمليات.. ما القصة؟! لربما هذه الحادثة كانت بحاجة لمثل هذا العنوان أو التساؤل، كي تنال نصيبها من الصدارة على المستوى العربي، الذي باتت نظرته تقتصر على شهرة الضحية، ومكانته، دون الالتفات إلى الحادثة نفسها، وإدانة القاتل، فقط يُكتفى بالمواساة فحسب، وتلك النظرة غيبت كثيراً من القصص الإنسانية والمعاناة الناتجة عن جرائم الحوثيين بحق المدنيين في اليمن.
تضاعف المأساة
يبدو أن دليلة تقبلت حادثة اللغم، وعملية البتر الأليمة؛ لكن حديثها يؤكد عدم تعايشها مع فكرة تخلي زوجها عنها، وبقائها وحيدة دون زواج.. "يوم الحادثة، جاء زوجي، وأني داخل غرفة العناية المركزة، شافني مبتورة الساقين، وقتها قرر الانفصال، والتخلي عني". موجعٌ حين يتخلى عنك من يفترض به أن يكون سندك في مواجهة ظروف الحياة البائسة.. هكذا تحولت الفرحة إلى مأساة مركبة في عين الشابة، خصوصًا مع اضطرار أسرتها إلى اقتراض مبالغ مالية لإعادة النفقات لأهالي عروسها بعد أيام من الأخذ والرد مع والدها في قاعات المحاكم القضائية.
في حديثها، استطردت بأسفٍ كبير: "كنت أتوقع أكون ربة بيت، أحمل مسؤولية أسرة، ويكون عندي أطفال، لكن الحوثيون أحرموني من شبابي، من عرسي، ومن كل شيء، اختطفوا زهرة عمري.. تحولت إلى معاقة".
إصابة الشابة فتحت أمامها باب المعاناة على مصراعيه، بدءًا من تكاليف العلاج، وصولًا إلى رحلة طويلة للبحث عن أطراف صناعية.. وبعد فترة من البقاء على عربة الإعاقة تكفلت منظمة أطباء بلا حدود، بعلاج الضحية، وتوفير الأطراف المناسبة لها، حيث جرى في أحد المستشفيات التابعة للمنظمة تركيب الأطراف للفتاة، لتستعيد بذلك السير بقدمين صناعيتين، وعكاز يعينها على الخطو والاستقامة بتوازن.. في البداية، شعرت وكأنها تعود تدريجيًا لطبيعتها، وحياتها السابقة، تدربت على المشي بالأطراف، وحاولت استعادة جزءٍ من الشجاعة لتعيش؛ لكنها مؤخرًا أدركت أنها أمام معاناة مستمرة.
تشير إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في أن الأطراف الصناعية لا تتحمل البقاء لفترة طويلة.. "الأطراف تعمل معي سنة واحدة، ويخربوا، أحتاج في كل عام لعملية للتبديل، وعمل أطراف جديدة.. الأمر الآخر، مع تقدم العمر، الشخص لا يستطيع حمل الأطراف الثقيلة.. قبل أيام، تواصلت مع المنظمة، وعدوني يعطوني أطراف بديلة".
في الأشهر الأخيرة من كل عام، تجد هذه الشابة تبحث عن تجديد لطرفيها، تناشد، وتستغيث بالحكومة، والمنظمات المعنية، والجهات المسؤولة، فهي لم تعد قادرة على الجلوس في كرسي الإعاقة، بعد أن اعتادت على السير بالأقدام الصناعية، والعصا بجوارها.. تحبس الدموع، وتشكو لموفد الوكالة: "تصور أرجع البيت وقت الظهيرة من كل يوم، أبعد السلكون من فوق أرجلي، وأشوف ساقي كلها ملتهبة، والآثار واضحة من التعب، والبقاء بين الشمس".. وبصوت يغمره التعب تضيف: "أناشد كل الدول الخارجية، والمانحة، ودولتنا أيضاً أن يخلصوني من المعاناة، ويسعوا لتبديل أطرافي الصناعية، وأن يهتموا بنا".
وعن الجانب النفسي، تفيد دليلة بأنها تعاني حالة نفسية، نتيجة إصابتها بالاكتئاب الحاد، وتضاعف نوبات القلق التي تراودها يومياً، ناهيك عن التفكير الزائد بخسارتها العضوية، إلى جانب خسارة فرحة العمر، كما تسميها.. "بالتأكيد، لا أخفي حالتي النفسية، المصائب كثيرة التي حلت بي، فقدت قدميّ، وأصبحت بدون زوج، بدون أطفال، وبلا سند.. باقي معي في الحياة أبي يساندني ويشجعني لكثير من الحاجات، وكذلك أمي تشجعني على العمل رغم إعاقتي".
خطوة لتحدي الإعاقة
تحاول دليلة الخروج من حالة العزلة، والتوحد الناتج عن الإعاقة الجسدية التي تجبر كثيراً من اليمنيين على البقاء داخل منازلهم كالنزلاء في السجن، بينما يتحمل أقاربهم تكاليف العيش، واحتياجاتهم اليومية.. تأبى هذه الشابة أن تبقى عالة على الآخرين، أو انتظار شفقة الناس، أو عطفهم، كما تقول.
يوميًا تقعد هذه الفتاة جوار كشك صغير، أنشأته قبل أكثر من عامين، بالقرب من مستشفى السويدي، في النقطة الرابعة.. تنتظر قدوم الناس لشراء بعض أنواع البسكويت، والشوكلاتة، والماء والعصائر، وأشياء أخرى.. مكانها الصغير يحتوي على مختلف المواد الغذائية التي يحتاجها المارة كثيراً، أو طلاب المدارس، الذين يمرون بها عند عودتهم من المدرسة.. كل هذا من أجل الاعتماد على ذاتها، والاكتفاء بما تعمل لتوفير نفقاتها اليومية، وتلبية لحاجات الأسرة والحياة المعيشية.
وحدها الحاجة أجبرت هذه الشابة، التي تحمل ملامح تكبر عمرها بعشرة أعوام، على العمل اليومي، والبحث عن لقمة عيش، ومصدر رزق يسد رمق أسرتها، خصوصًا بعد أن شردتهم الحرب، وتسببت بانتقالهم من المنطقة الأم، إلى وسط المدينة، الأمر الذي كلفها الكثير، وجعلها أمام مسؤولية يومية، والتزامات شهرية أبرزها احتياجات المعيشة، وتكاليف السكن.. تشرح المعاناة: "تحديت الإعاقة، عملت لي بسطة، أمشي بها أموري، ملزمة بدفع الإيجار شهرياً، ومصاريفي، ومصاريف البيت والأسرة.. على الرغم من إعاقتي، أتحدى كل شيء".. وتضيف: "أوجه رسالتي لكل من هو معاق مثلي، لا تهمل نفسك، ولا تبق عالة على أحد.. اعمل بقدر استطاعتك".
جاءت فكرة المشروع الصغير، بدافع الخروج من حالة اليأس، التي مرت بها دليلة بعد فترة من الحادثة، وذلك للالتحاق بصف النساء القادرات، والاستفادة من العائد المالي في تسيير أمور الأسرة.. تجد هذه الشابة حياتها الجديدة، الممزوجة بالكفاح والتعب، تتناسب مع مهنتها كبائعة.. تلك المهنة التي تجعلها قريبة من المجتمع المحيط، وتمكنها من تكوين علاقات ودية مع نساء الحي، اللاتي يترددن عليها باستمرار، فضلاً عن محادثة الصغار، الذين ينادونها بالعمة دليلة.
هكذا تتحدى دليلة الإعاقة، تتجاوز الصعوبات، لتبقى مصدر إلهام للآخرين.. حاولت، فنجحت، بفعل إيمانها بالصبر والنجاح، ناهيك أنها امرأة تتمتع بعزيمة قوية، جعل الكثيرين يصفونها بالمرأة الحديدية.