الحلقة (3) الهجوم على الجذور
في الواقع، اشتغلت الإمامية بمختلف مسمياتها، كأي حركة سياسية على الثقافة لصناعة وتطوير بيئة اجتماعية ملائمة لتمكنها وبقائها؛ إلا أنها امتازت عن كثير من الحركات التي ظهرت في المجال والتاريخ الإسلامي بجعل مفاهيمها وأيديولوجيتها السياسية أولوية ثقافية قصوى، فكانت "الإمامة" بالنسبة لها أصلًا وركنًا من أركان الدين الإسلامي لا يقوم بدونه، وليست مجرد فرع ديني عند بقية التوجهات المذهبية الإسلامية، ما أتاح لها أرضية خصبة ودائمة لتقبل ظهورها السياسي في الظروف المواتية، وهذا ما حدث على مدار التاريخ الإسلامي لليمن؛ إذ نجد أن الحركة الإمامية كلما قُضي عليها عسكريًا وسياسيًا في وقت ومكان ما، ظهرت في وقت ومكان آخر، وذلك أيضًا ما نراه راهنًا مع المليشيا الإمامية الحوثية المحفزة باختلالات سياسية وثقافية يمنية داخلية، ومصالح إقليمية ودولية.
 
الاهتمام الإمامي بالنطاق الثقافي لا يعني انفراده المطلق به، والغياب التام للمواجهة الثقافية اليمنية؛ فعلى العكس برزت على الساحة التاريخية مواجهات فكرية وثقافية استهدفت أسس الثقافة الإمامية، كسجالات نشوان الحميري في القرن السادس الهجري، أي بعد أقل من ثلاثمئة سنة من قدوم الرسي إلى اليمن، وفي العهد الحديث كانت هناك محاولات مشتتة في المضمار، قليل منها ركز على الأسس الفكرية والثقافية للإمامية وأغلبها اقتصر على مهاجمة أعراض الظاهرة الإمامية، في حين ظلت الأخيرة تستغل ضعف المواجهة الثقافية المقابلة، وبالتالي الفجوات الناجمة عن متنفس الحراك الثقافي، في توظيف أرضيتها الثقافية الكامنة لتنمية تناقضات سياسية في الوسط الجمهوري، ترافقًا مع عصرنة أساليب ومنهجية مجابهة موجات قيم حديثة في أشكالها لكنها تتوافق مع جوهر الثقافة اليمنية في الوسطية والتعايش، كقيم الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان.
 
اجتهدت الحركة الإمامية، التي برزت في شكلها السياسي والعسكري بتعبيرها الحوثي منذ تسعينيات القرن الميلادي الماضي، من خلال استغلال المناخ الديمقراطي في اختراق مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية والمنظمات المدنية، وقبلها وبعدها، المؤسسات والفعاليات الثقافية بمعناها الواسع، لاستمرار حضورها الفكري، فكانت لها مكتباتها الخاصة، وامتلكت مراكز تعليمية، وشكلت بإسناد إيراني عبر عراقيين "حسينيات" منها "الثقلين" و"الكوثر" في العاصمة صنعاء، وأنشأت جمعيات خيرية، وأقامت مخيمات صيفية، غير مراكزها الخاصة الدائمة في العديد من المساجد.
 
التحدي الإمامي الأساسي يكمن في عمقه الثقافي والفكري، والمواجهة الحقيقية والفاعلة ينبغي ألا تُغفل هذا العمق أو تعتبره ثانويًا؛ إذ إنه يمثل غرفة الإنعاش للحركة الإمامية، ولعل الوقت قد حان لجرأة ثقافية في المجابهة، تُعنى بصورتها العامة بإيجاد قراءة يمنية للإسلام بعيدًا عن الثنائية الدينية- القرشية، والدينية- السلالية، وتتناول المقولات "القرشية" في المذاهب الحنفية والشافعية والحنبلية الموجودة الآن ضمن الطيف المذهبي الديني في البلاد، بالإضافة إلى مقولة "البطنين"، بإعادة قراءة الزيدية الأصلية، وما إذا كان الثائر زيد بن علي مؤسسًا حقيقيًا للمذهب المنسوب إليه ومدى صحة ما رُبط به من تراث، وكذلك الولوج في التمحيص العلمي لكتب الأنساب ومشجراتها بالاستعانة بالتطورات المتعلقة بالخرائط الجينية، وكذلك العمل على إحلال المفاهيم المستلهمة من ثقافة اليمنيين والمتماشية مع قيم العصر وروحه، وتصفية ثقافة التميز على أسس سلالية.
 
ذلك من جانب الفعاليات الثقافية والفكرية، أما من الناحية الرسمية السياسية؛ فإن السلطات الجمهورية، ما بعد الحوثية، مطالبة بقوانين تتدرج كروافع في ترسيخ ثقافة بديلة للإمامية، وتأطير حقيقي لمسارات مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وبمقدمتها حصر التعليم، مناهج ومؤسسات، بالمدارس والجامعات الحكومية والخاصة المصرح لها بالعمل وفق نمط تعليمي موحد وعام، وعدم السماح بالتعليم الديني في المساجد والمراكز الخاصة، أو على الأقل دمجه بالتعليم العام وإخضاعه لإشراف حكومي فعلي.
 
بدون إعطاء الثقافة والفكر مكانهما المُستحق في المعركة، فستظل الإمامية تطفو على السطح السياسي والعسكري اليمني بين فينة وأخرى، وهذا ما يؤكده التاريخ على مدى تجاوز الألف سنة.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية