" 2 ديسمبر" تفتح ملف تعز من خطوط التماس .. حصار المدينة والإنسان (الحلقة الأولى)
على أطراف مدينة تعز، ثمة حواجز ترابية ما إن تراها، أو تقف بالقرب منها حتى تشعر بالخطر.. توحي لك بقصة مدينة محاصرة، منذ أكثر من سبعة أعوام، بل بموت الأطفال قنصًا، واستهداف الأحياء السكنية بقذائف عشوائية، يطلقها الحوثيون بشكل شبه يومي على رؤوس المدنيين؛ فمنذ بداية الحرب، كان الحصار، والموت، والجوع ثالوثًا حوّل المدينة إلى قضية إنسانية بحتة، وملفًا حاضرًا بمعاناته على أرض الواقع، غائبًا عن أعين الصحافة العربية ومنظمات المجتمع الدولي.
وكالة "2 ديسمبر" تفتح ملف تعز الإنساني، وتسعى إلى رصد معاناة المدنيين، وتوثيق انتهاكات الحوثيين، عبر سلسلة من القصص المكتوبة والمرئية، ليكون دفترًا مفتوحًا عنوانه "حصار المدينة والإنسان".
المكان: زيد الموشكي، الزمان: الثامنة صباح الأحد الماضي، كان موفد الوكالة بالقرب من حاجز ترابي، يتوسط شارعًا رئيسيًا يؤدي إلى كلابة.. تلك المنطقة تسمى منطقة "الموت"، لا يعبرها مدني إلا وسقط ضحية قناصة الحوثي.
وأنت تحاول أن تعرف أسباب تواجد هذه الحواجز، ستجد البعض يُظهر نوعًا من الغرابة تجاه هذا السؤال، بحكم أن الواقع يجيب على هكذا استفسارات، أكثر من كلام وحديث الناس؛ فالحرب ربما تختصر الحديث، والصورة تختصر المعنى والواقع معًا، لكننا بحكم عملنا الصحفي، نحب عادة السماع من الناس، وإن كنا نعرف الواقع والتفاصيل.
يقول مهيوب خالد: "يُعتبر هذا التراب بمثابة الحدود، فاصل بيننا وبين الحوثيين.. حاجز، لا سيارة تطلع، ولا سيارة تنزل، كذا من بداية الحرب".. يتدخل رجل آخر كان بجوارنا: "لا لا.. هذا ستار يحمي المدنيين، من قناص حوثي، يقتل الصغير والكبير".
إلى جانب هذه السواتر الترابية، تسكن عشرات الأسر المهمشة، والذين لا يجدون مأوى سوى التخييم على خطوط النار.. امنح نفسك قليلًا من الجُرأة واقترب لتعرف مدى اقتراب هؤلاء من الموت، وما يعيشونه من رعب وخوف.. محاطين بالقذائف، تحاصرهم رصاصات قناص يتمركز في نوبات مبنى الأمن المركزي، يطوف بعدسته المكان، يرصد الحي، وتحركات الأهالي، ويختار فريسته دون تمييز.
أما إذا كنت تعيش في "كلابة"؛ فسيتوجب عليك تجاوز الحاجز عبر مدخل فرعي، ثم النزول سريعًا، شرط التحرك بحذر شديد، والتنقل خلف جدران المنازل، والأشجار الكثيفة، إنها طريق إلى الموت.
تجاوز الموفد حاجز التراب.. كان يقصد أول قصة لهذا الملف، حين استوقفه رجل خمسيني سائلًا: "أين ستروح يا ابني، بيقنصك القناص.. هذا الشارع خطر". وعندما عرف أن دراجة نارية هي وسيلة نزولنا ، علّق: "لو تشتي تموت انزل، أنا ما أشتيك تُقتل.. عادك بعز شبابك" وأضاف: "قبل يومين، قنص طفل، خلف التراب، وأمس رجل كبير.. اليوم هادئ القناص ما ضرب من الصباح". وبعدما عرف مهمتنا الصحفية اختصر الحديث بإشارة إلى ممر فرعي استحدثه مواطنو الحي، كممر سري بعيدًا عن رؤية القناص.
بين منزلين، يوجد مدخل صغير يقودك إلى تعرجات كثيرة تنتهي بمدرج إلى أحياء كلابة، حيث يقضي الساكنون حياتهم بحذر، يضعون ألف خطة وخطة لخطواتهم، وتحركاتهم، ويدرسون تصرفاتهم قبل التنفيذ تجنبًا للخطأ والموت.
الأم المكلومة
فرحة مسروقة
كان الهدوء، يسود المكان عدا عن وقع خطواتنا، توجهنا إلى منزل أم حسن، حيث الحزن الحقيقي، والأم المكلومة، التي تبكي لمجرد سماعها اسم ولدها.. بعد انتظارنا لدقائق عشر، بدت بحزنها، تسأل: "أيوه يا ولدي، أني أم حسن.. أيش تشتي؟".. أخبرناها بمهمتنا الصحفية في توثيق معاناة الساكنين على خطوط التماس، والمخاطر التي تحيط بهؤلاء المدنيين.
في البداية، ردت: "لا توجع لي قلبي.. تعبت بكاء، شابعة حزن".. تعب ووجع، ألم وبكاء، هو كل ما قالته هذه الأم في تلخيص قصة فقدانها الأول، وغادرتنا رافضة أن تروي لنا التفاصيل؛ لكننا لم نتنازل بهذه السهولة، خصوصًا أن الوصول إليها يٌعتبر مغامرة.. بعد ربع ساعة، تفاجأت الأم بوجودنا أمام منزلها، بانتظار عودتها، فقالت بنبرة معتذرة: "لا تؤاخذوني.. من بعد رحيل ابني، فقدتُ أعصابي.. عندما ينادوني بأم حسن، دموعي تتساقط دون استئذان".
يُعتبر حسن سعيد، الابن الأكبر والوحيد لأسرته التي تعيش كلابة من قبل سنوات الحرب.. في منتصف 2017 قرر الزواج، وهذا كان من داعي سرور والدته، حد تعبيرها.. وخلال أشهر قليلة، استطاع توفير المتطلبات الأساسية للاستقرار، لكن ليست وحدها زوجته من كانت تنتظره، ولا موعد زفافه فحسب، بل أيضًا قناص المليشيات الذي تدخّل فجأة لتغيير مسار حياة أسرة كانت على مقربة من الفرحة، الفرحة التي تحولت بفعل رصاصة واحدة إلى مأتم دائم.
ما إن بدأت الأم بسرد هذه التفاصيل حتى انهارت باكية، وبصوت ممزوج بالحسرة، والجرح عميق الأثر.. "تخيل.. بدلة العرس قد كانت جاهزة بالبيت، وموعد الزفاف بعد أسبوع.. كان حسن يرتب نفسه للحياة، والقناص يرتب لقتله".. وتضيف: "كان بنفسي أشوف ابني عريس، ونفرح به؛ لكن قنصوه الحوثيين، الله يقنص حياته الذي قتل ولدي".
تأخذ نفسًا وتتابع: "بقنصهم حسن، قتلوا قلبي.. جعلوني في دوامة من البكاء إلى البكاء.. الله لا يوفقهم". ونهضت من مكانها كما لو أنها تريد إنهاء الحديث، وبخطوات بطيئة سارت إلى مدخل الحي- منطقة مفتوحة لرؤية قناصة الحوثي- توقفت قائلة: "في هذا المكان قُنص ابني الوحيد". ثم تابعت تقدمها متوجهة نحو الممر الأكثر خطرًا.
سألها الموفد: "المكان مكشوف.. إلى أين ذاهبة؟" تجيب: "كل يوم أمر من هذا المكان، أترحم على ابني، وأتوجه إلى الشارع المؤدي إلى الحاجز الترابي". لكن القناص لا يرحم..؟ هذه المرة، لم تتوقف، ولن تلتفت، فقد اكتفت بالرد وهي تواصل المشي..: "أيش عاد بيشلوا مني.. هو ابني الوحيد شلوه، الله يشلهم".
بهذه الطريقة، وبالطقوس ذاتها، اعتادت أم حسن الخروج من حي كلابة، والعودة إليه من المدخل الرئيسي، بعكس الآخرين الذين يتسللون من ممرات سرية.. في الواقع هي أشبه بمغامرة يومية، لكن بنظر الأم أمر عادي، لا تكترث إن صارت يومًا ضحية رصاصة أخرى، كما لو أنها سئمت الحياة بعيدًا عن ولدها.. هكذا غادرتنا دون وداع، فوحده ولدها من تحييه كل صباح، تحية شوق وفقدان.
بقاء إجباري
أهالي بانتظار الموت
الحياة في مناطق التماس
على مرمى حجر من مواقع الحوثيين حاولت عدسة "2 ديسمبر" رصد تفاصيل أحياء كلابة القريبة من خطوط التماس، وكيف يعيش الساكنون، ولماذا هنا فحسب، أهُم مجبورون على البقاء، أم هو جنون المغامرة؟ والأخير احتمال بعيد.
على الرغم من نزوح مئات الأسر من كلابة، هربًا من الموت الحوثي، إلا أن بعض الأسر لم تجد أمامها سوى البقاء.. ليس من خيار آخر غير التعايش مع المخاطر، وإن كان ثمنها الروح.. والدة محمد، واحدة من الأسر التي تعايشت مع الموت اليومي.. في غرفتين صغيرتين، تسكن المرأة مقابل أجر بسيط، وتجد الرحيل من هذا الحي غير مناسبًا، فهي التي تتدبر الاحتياجات اليومية للأسرة، ترى أنها غير قادرة على تغطية تكاليف السكن والعيش وسط المدينة.. هكذا تصبح خطوط النار مأوى لمن لا مأوى له في مدينة تعيش الأمرّين؛ الحرب والحصار.
محفوظ جميل، مدني يعيش بالجوار، في منزل نوافذه من الأحجار والثياب، وبعض الأشياء البلاستيكية.. لجأ هذا الرجل إلى وسائل حماية مبتكرة للتمويه، فقد عمل على تغطية كل المنافذ التي تقع باتجاه الحوثيين، واستبدل ذلك بفتح منافذ آمنة من الجهة الخلفية، ليتسنى له البقاء، وإن كانت الظروف المعيشية سيئة، فبعض التفاصيل مؤلمة حالما يرويها أصحاب المعاناة.
يقول: "نعيش كالبؤساء، نتوقع الموت في كل لحظة.. لا نستطيع جلب الطعام أو الماء، إلا في أوقات محددة، ومن طرق سرية، نختبئ خلف المنازل والبنايات.. عدا ذلك نبقى في بيوتنا، مثل السجناء داخل قفص.. الحوثي هذا شلل بالنسبة لحريتنا".. يستطرد: "نجلس بقلق.. بالنهار لا نقدر نفتح شباك، ولا نطلع سقف، وبالليل نعيش في الظلام.. إذا شغلنا الضوء يضرب القناص على طول.. نمتلك الضوء، وما نجرأ نشغّل.. هذا جزء بسيط من معاناتنا في مناطق التماس، وضعنا صعب".
والمتتبع لحياة هؤلاء، قد يرصد تفاصيل وأحداثًا مرعبة، تستغرب أحيانًا وأنت تسمع رجلًا يتحدث عن موعد خروجه المبكر من منزله.. يخرج عند الخامسة فجرًا راكبًا دراجته يعتبرها مدخل رزقه الوحيد، ليعود عند الثامنة مساء، حاملًا لأطفاله ما يسد رمقهم، فإلى جانب المغامرة، والتعايش مع المخاطر، تجدهم في حالة من الكفاح والبحث المستمر عن طريق إلى النجاة.
من المنازل المدمَّرة، إلى خزانات المياه التي يستهدفها الحوثيون عمدًا لزيادة معاناة الساكنين، مع توفير المياه، فالحصول عليها في مثل هذه المناطق ليس سهلًا.. الأمر الذي جعل كثيرًا من المدنيين، ينقلون خزانات المياه إلى أماكن آمنة، أو بناء جدران رفيعة لحمايتها من الرصاصات العشوائية.. كل شيء بات تحت عدسة الاستهداف، والمدنيون لا يفرقون بين التواري والنجاة بأرواحهم أو بخزانات المياه.
لم يعد في كلابة ما يوحي بالحياة، وكأنه لا يحق لشيء في هذه الأحياء أن يعيش.. وحدها الأشجار تنمو باعتبارها أشجارًا طبيعية، وتكبر بجانب البيوت، وأزقة الحي، وفي أوساط الشوارع الإسفلتية، وفي الشوارع البينية التي تفصل بين جبهتي الحرب.. شوارع صارت تشبه كثيرًا غابات واسعة، نسي ملامحَها العابرون، ولعلها هي نسيت ملامحهم أيضًا.
أطفال خطوط التماس
تأزم نفسي، وعدوانية سجناء المنازل، محرومون من اللعب
منذ عامين، والطفل أيمن عبدالله، يعيش حالة من العزلة، في المنزل يبقى مع هاتفه بعيدًا عن تجمع أسرته، التي تحدثت لنا عن لعبة قديمة تسببت بكل ما يعانيه الصغير.. لعبة الموت، حد وصفهم، أو الغُماية، كما تسمى في كثير من قرى وأحياء تعز.
وهي لعبة شعبية، يلعبها فريق من الأطفال.. قوانينها تبدأ بوقوف أحد الصغار في مكان ما، مغمض العينين يردد: "غاب القمر أو عاده" في الوقت الذي يبحث فيه آخرون عن أماكن للاختباء فيها.. بعدها ينتقل "الغماي" إلى البحث عن رفاقه، وهنا تبدأ خطوات اللعبة بالاتجاه إلى الملاحقة، بحيث يُطرد كل لاعب يكشف هوية موقعه.
ذات مساء، كان أيمن يؤدي دور "الغماي" فيما صديقه صابر، وأطفال آخرون يختبئون في أزقة حي عصيفرة.. يتوجه نحو صابر، والأخير يفر هاربًا بين تعرجات المكان، فقد استطاع الهروب من ملاحقة قائد الغماية، بالمقابل لم يستطع النجاة من رصاصة قناص اخترقت صدره.
مفجوعًا، وجد أيمن صديقه مصابًا، يصرخ: "صابر قُنص.. شموت" في محاولة للاستعانة بشباب المنطقة، لإسعاف الضحية، الذي فارق الحياة على عجل.. تلك هي قصة أيمن الذي بات يعاني من مشاكل صحية، وقلق نفسي، تنتابه حالة من الانفعال أحيانًا، إضافة إلى مشكلة عدم اندماجه مع زملائه في المدرسة، وانعزاله عن المحيط، والمجتمع.
يوميًا يتعرض أطفال خطوط التماس، للعديد من الانتهاكات، تتنوع بين القنص والقصف، حيث تشير تقارير حقوقية إلى أن عدد الأطفال الذين سقطوا داخل مدينة تعز بفعل حرب الحوثيين، يزيد عن 370 طفلًا.. عدد يثبت وحشية القتل.
ويذكر حقوقيون أن هذه الفئة الضعيفة لا تزال تعاني من التشريد، والحرمان من التعليم، ومن وصول الاحتياجات الأساسية، مثل الغذاء والماء والعلاج.. وكثيرة هي قصص الأطفال الذين يسكنون خطوط التماس، فمن لم يمت بالرصاص مات خوفًا وقلقًا.. سجناء المنازل، محرومون من اللعب، أسباب تقود البعض إلى حالة من التأزم النفسي، والعدوانية.
خارطة المدينة
أحياء على خطوط النار
منذ البدايات الأولى للحرب انقسمت تعز المدينة إلى جزءين؛ النصف الأول مدنيون يسكنون ثلاث مديريات وسط المدينة، هي مديرية القاهرة، والمظفر، وصالة، فيما يتربع الحوثي على المحيط الجبلي، ويسيطر على المنافذ الرئيسية والفرعية.
من خلال جولتنا الميدانية، تتبعنا خارطة المناطق التي تقع على خطوط النار، والتي تمتد من فرزة صنعاء التابعة لمديرية صالة شرقًا، مرورًا بحي شارع الأربعين شمالًا، إلى منطقة عصيفرة، ثم الزنوج، والدفاع الجوي، وغراب، وصولًا إلى مفرق شرعب.. على امتداد هذا الخط الناري تقع أكثر من 12 منطقة سكنية، لا يزال غالبية سكانها حتى اليوم بين القصف، والقنص، والاستهداف المباشر، والعشوائي من قِبل الحوثيين.
حي الشماسي، الثورة، كلابة، زيد الموشكي، حي الأربعين، عصيفرة، الدمينة، حي السكنية، المطار القديم، وأجزاء واسعة من مديرية صالة.. لا يكاد يمر يوم على هذه الأحياء دون سقوط ضحية من المدنيين، وكثيرة هي قصص المعاناة التي يدفعها الساكنون ضريبة البقاء في منازلهم.
يفتقر ساكنو هذه الأحياء للغذاء والماء والأدوية، منسيون، معزولون، وبعيدون عن اهتمام المنظمات.. حصار الحوثي يقيد حركتهم، ويمنعهم من الرعي، والاحتطاب، وجلب الماء، أو البحث عن الرزق.. يواجهون مصيرهم بمفردهم، عاجزين عن الهروب أو النزوح إلى مكان آخر، نتيجة فقرهم.
تسكن أسرة أحمد فرحان في منزل لا يبعد كثيرًا عن جبهة عصيفرة، ليس حبًا في المكان، إنما هي الظروف المعيشية أجبرتهم على الاستمرار والبقاء.. يشرح الرجل: "لا نملك مصدر دخل يكفل لنا السكن بعيدًا عن الموت، وخطر الحوثيين.. تدري أن إيجار أصغر شقة يصل إلى مائة ألف ريال، ونحن ما عندنا فلوس.. مع حصار المدينة، واختصارها في شارعين، ما نقدر نحصل شغل، ولا عمل.. نعيش على الله، ونتدبر قوت يومنا بالعافية".
ظروف قاسية تجعل الكثيرين بين خوف، وقلق شديدين، كلما تجددت المواجهات أو قرر الحوثيون التضييق على الساكنين.. يؤكد: "عندما نسمع صوت اشتباكات، أو رصاصات القناصة، نهرب للبدروم الدور الأرضي، لكن لا أحد يستطيع الهروب من الموت.. يأتي بموعده، لا يتقدم، ولا يتأخر، والأعمار كلها بيد الله". يؤمن بالموت، يؤمن بقضاء الله وقدره، باقيًا بالقرب من قاتل لا يعرف سوى سفك الدماء وقتل الأرواح.. هكذا باتت الحياة على خطوط التماس أكثر تعقيدًا.
