الملاحَظ أن الأدب السياسي لما يسمّى بـ اليسار اليمني، منذ سبعينات القرن الماضي، يُولي أهمية كبرى لمناهضة المشايخ والعسكر، وللهجوم على التجربة الجمهورية وعلى تجربة الوحدة اليمنية، وكل ذلك يجري دائماً باسم العديد من الشعارات والمبادئ والمُثُل.
 
وهذا يعني، حسب علمي، أن أدبيات اليسار "المنظّم" لن تسعفك اليوم بالكثير مما قد تحتاجه في مواجهة الإمامة. على الأقل أدبيات يسار الثمانينات من القرن الماضي وما بعدها إلى اليوم.
 
وإذا نطق يساريٌّ ما ضد الإمامة، فإنه لا ينطق إلا في سياق التباهي بصنائعه والحط من صنيع الآخرين. وإذا تحدث عن الجمهورية، فلا بد أن يرفق حديثه بالتحسُّر على ضياعها في وقت مبكر جداً وسرقتها وإفراغها من مضمونها. 
 
لهذا لا يملك اليساري بُنية خطابية مكتملة ضد الإمامة على نحو مخصوص، فهو سيخبرك أن عليك استنتاج موقفه من الإمامة من خلال موقفه من الدين ومن "الرجعية" ومن الاستغلال، والجور الطبقي، والبرجوازية والكومبرادور!
 
أي أنه لا يستطيع أن يرفض الإمامة إلا عبر إدراجها في إطار مفهوم اجتماعي عالمي يمكن أن يضم فيه كل شيء ولا شيء. 
 
ففي خانة "قوى الرجعية" مثلاً، قام اليسار اليمني في البداية بتصنيف كبار الجمهوريين وكبار الإماميين جنباً إلى جنب. طبعاً قبل أن يغادر كثير من الإماميين -المهزومين- خانة الصفة "الرجعية" إلى رحاب اليسار "التقدمي" المعادي للرأسمالية والإمبريالية العالمية.
 
يمكن لليساري اليمني أن يتباهى بأنه ليس "طائفياً" بالمعنى الديني، لكنه أدرك نفسه سريعاً فأصبح مع مرور الوقت "مناطقياً"، ومناطقيته ملتزمة -ويا للمفارقة- بخطوط انقسام جغرافي موروث ينطوي على بُعد طائفي مذهبي!
 
نعم، اليساري التقليدي راقٍ جداً، فهو لن يقول علناً: "الزيود" و"الزيدية"، بل يستبدلها بـ"الهضبة" و"المركز المقدس" و"القوى التقليدية"، وإن كانت النتيجة المقصودة من هذه الألفاظ واحدة غالباً!
 
مشكلة اليساري اليوم مع الحوثي ليست الإمامة، ولا الفكرة الهاشمية الزيدية. واليساري لا يتهم الحوثي بإسقاط الجمهورية والدولة، فاليساري لا يؤمن بشيء أكثر من إيمانه بأن الجمهورية والدولة والوحدة هي أشياء لم تكن موجودة في اليمن لكي نندم أو نأسى على ضياعها!
 
لكن بوسع اليساري أحياناً أن يلخّص مشكلته مع الحوثي في كلمتين: هيمنة الهضبة. متنازلاً بذلك عن المفاهيم والأطر العالمية النضالية الكُبرى، مفضِّلاً عليها تحديداً مناطقياً غامضاً للمشكلة. 
 
وفي هذا التحديد، ليس الحوثي سوى ممثل جديد لآفة قديمة مستمرة بلا انقطاع، بل إن الإمامة لم تكن سوى صورة من صورها!
 
لكن لو سألته: وما هو نقيض هذه الهيمنة المزعومة؟ ما هو الوضع العادل والممكن البديل لها؟ وكيف نستطيع بلوغه؟
سيقول الكثير والكثير من الكلام الفارغ. 
 
أما النقيض الفعلي لما يسميها بـ"الهيمنة"، فهو هذا الاتجاه التفكيكي الذي نشاهده اليوم: أن نترك الهضبة لمصيرها مع الإمامة، وباقي اليمن عادي يطير ملح. 
ونعم بك يا أسد!
 
 
•من صفحة الكاتب على فيسبوك

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية