الدكتور صادق القاضي يقدم قراءة في " الهاشمية السياسية" وتاريخ " السيد والشريف"
في أواخر القرن الثالث للهجرة، وبالتحديد في عام "295هـ"، تُوفّي أحد المنتسبين إلى "السيد، الشريف، الإمام "علي بن أبي طالب"، ونُقش على شاهد قبره: "السَّيِّد الشَّرِيف معاذ بن داود".
هذا الشاهد الحجري، هو أقدم وثيقة "أثرية مادية"، في التاريخ العربي والإسلامي، على استخدام هذين اللفظين "السيد والشريف" بهذا التخصيص العرقي والسلالي، في المنتمين إلى عشيرة "بني هاشم" القرشية.
على الصعيد التأليفي ظهر هذا التخصيص ربما لأول مرة في أواخر القرن الثاني للهجرة، في مؤلفات بعض المحسوبين على"آل البيت" الهاشمي، كما في كتاب "أبناء الإمام في مصر والشام" لابن طباطبا الحسني "ت: 199هـ"، وفي مقدمة كتابه ذكر صاحبه: إنه ألفه بطلب من بعض "السادة الأشراف" لحماية أنساب آل البيت من الانتحال.
ما يعني أن هذه العشيرة من قريش كانت قد أصبحت، في عهد المؤلف، ذات خصوصية عالية، تجعل الانتساب إليها، مطمع الكثيرين، وهي ظاهرة ثقافية، يُفترض وجودها على الصعيد الشفاهي، قبل ظهورها في المؤلفات، وفي الوعي قبل اللغة، وفي المعتقدات قبل التعبيرات الرمزية!
لم يكن الأمر هكذا في بداية الإسلام، ولا حتى في الجاهلية التي كانت فيها صفة "السيد" ومثلها صفة "الشريف" تعبّران بشكل عام عن المكانة الفردية الفعلية أو الاعتبارية لأي شخص قيادي في المجتمع، وحده دون أقاربه وعائلته وعرقه، فكان قادة القبائل، وزعماء العشائر، وأصحاب الرأي والتأثير والثروة والجاه.. هم سادة وأشراف العرب.
وهكذا كان الأمر على مستوى قريش، وظل كذلك في الإسلام، ومع أن الرسول نفسه، فضلًا عن "علي بن أبي طالب"، لم يكن يحمل هاتين الصفتين التقليديتين؛ لكنه لم يعترض على هذه الأوصاف التشريفية، ولا على الأسس التي قامت عليها، فظلت سارية بشكل عادي، ومن الممكن استخدامها بهذا الاعتبار حتى اليوم.
أما كيف تحولت هذه الصفات إلى شفرات عرقية، وتم تخصيصها في بني هاشم، والإشكاليات التي تبلور على أساسها هذا التحويل والتخصيص؟! فمسألة نسبية تاريخية طارئة بعد الإسلام، كانت بذرتها الأولى فكرة أن القرابة من الرسول (ص) تجعل أقاربه أحق من بطون قريش الأخرى، وغيرهم، بالسلطة السياسية.
ربما خطر في ذهن علي بن أبي طالب شيء من هذا القبيل، بعد وفاة الرسول، لكنه نحاه جانبًا وبايع أبا بكر كغيره، ثم تولى الخلافة بنفسه، ولم يوصي بها إلى أحد من بنيه، والحاصل أن هذه الفكرة ظهرت بعد وفاة علي، ونضجت تدريجيًا في مرجل الصراع السياسي بين بني هاشم وبني أمية.
يقال إن جذور الصراع بين هاتين العشيرتين القرشيتين تعود إلى العصر الجاهلي؛ لكن الواقع أن العلاقة بينهما كانت في الجاهلية، وظلت لفترة طويلة في فجر الإسلام، علاقة تكاملية مميزة، كما يفترض بعشيرتين من فخذ واحد، ضمن كيان بني عبد مناف، وهو ما أكده ابن هشام بقوله: "كان بنو عبد مناف أهل بيت واحد، شرف بعضهم لبعض شرف، وفضل بعضهم لبعض فضل".
كانت كل عشيرة منهما تتعصب للأخرى، خاصة بني أمية، وقد تجلت هذه العصبية الجامعة بشكل خاص إثر وفاة الرسول، والخلاف حول من يخلفه في الأمر، يومها ذهب زعيم بني أمية "أبو سفيان بن حرب" إلى "علي بن أبي طالب" ليبايعه، حرصًا على أن لا يخرج الأمر عن بني عبد مناف، ومثله خالد بن سعيد بن العاص، الأموي العبشمي، وهو من السابقين للإسلام، ومن ولاة الرسول، جاء من اليمن وقد تمت البيعة لأبي بكر، فطرح رأيه المتمثل بأن الأحق بالخلافة: العباس بن عبد المطلب، أو علي بن أبي طالب، أو عثمان بن عفان، وكلهم من بني عبد مناف.
بمعنى أن العداوة الشهيرة والصراع الطويل بين هاتين العشيرتين، طارئ ومتأخر زمنيًا، وبخلاف ما قاله مؤرخون متأخرون، فالصراع بينهما بدأ فقط، لأول مرة، وبشكل سياسي بحت، بعد وفاة الخليفة عثمان بن عفان، بالصراع بين علي ومعاوية على الخلافة، وخلال هذا الصراع كتب علي إلى معاوية يذكره بموقف أبيه أبي سفيان: "وقد كان أبوك أتاني حين وليّ أبو بكر، رحمه الله، الناس، فقال أنت أحق بهذا الأمر بعد محمد (ص)، فهلم أبايعك، وأنا بذلك على من خالفك، فكرهنا ذلك مخافة الفرقة".
نجح بنو أمية أولًا بحسم ذلك الصراع لصالحهم، وظلوا طوال الدولة الأموية يتراوحون في التعامل مع الهاشميين بين شعرة معاوية أو سيف يزيد، وللإنصاف كان الأمويون- رغم اتكائهم على الأحقية الدينية لقريش في الحكم- أقل الأطراف توظيفًا للدين في معاركهم السياسية، مقارنة بالهاشميين الذين عملوا مبكرًا على تكريس أحقيتهم بالسلطة باعتبارات دينية سلالية خالصة.
خلال العصر الأموي نفسه كانت الهاشمية السياسية تتبلور بالتدريج كنظرية سياسية تتكئ على الحق الإلهي بالسلطة لسلالتهم المتذرعة بقرابتها من الرسول، كمعيار ديني لأحقيتهم السياسية، وتنتشر وتتوسع وتعمل بالخفاء والعلن لإسقاط الدولة الأموية.
لم ينجح الأمويون بالمال والقمع في وضع حد لذلك الصراع الذي انتهى بالنسبة لهم لاحقًا بأسوأ الطرق البشعة لتسوية الصراعات، وهي تعرضهم للإبادة الشاملة، والتطهير العرقي.. وبغض النظر عن الناجين القليلين منهم، على رأسهم عبد الرحمن الداخل وأسرته ودولتهم في الأندلس، فلم تقم للأمويين قائمة في أي مكان آخر طوال التاريخ الإسلامي.
في المقابل، تمكن الهاشميون من تكوين مئات الحركات المعارضة، والثورية، وعشرات الدول السلالية، على امتداد العالم الإسلامي، وصولًا إلى العصر الحاضر، وكلها تستند على فكرة وعقيدة نضجا في مرجل الصراع السياسي الدنيوي الخالص على السلطة في التاريخ الإسلامي.
ورغم خروج الأمويين من اللعبة، قبل ألف وثلاثمئة عام، فقد ظل الصراع بالنسبة للهاشميين قائمًا حتى اليوم بأثر رجعي، وطوال هذا التاريخ، كانت المفاهيم والمصطلحات والعقائد المتعلقة بامتيازات دينية واجتماعية وسياسية.. فئوية خاصة، تتخلق وتتراكم ضمن نظرية عنصرية، قائمة على التفوق العرقي، باعتبار القرابة من الرسول مكسبًا أسريًا، وسندًا دينيًا وإلهيًا، يجعل بني هاشم أقرب إلى الله، ووسطاء إليه، ويفضلهم على قريش وغير قريش، ويمنحهم الأحقية بالسلطة والزعامة والقيادة الدينية والسياسية!
القضية تراكمية مرتبطة بشيوع وتجذر مفاهيم ومعتقدات موازية، وفي القرن الرابع للهجرة، كان تخصيص صفات "السيد" و"الشريف" ببني هاشم، قد أصبح ظاهرة متجذرة شائعة، مترسخة في الوعي الشعبي والنخبوي، نتيجة تجذيرها من قبل مختلف المذاهب الشيعية والسنية، والعمل عليها من قبل السلطات والمعارضات السياسية خلال العصر العباسي.
ترافق ذلك مع دخول الحضارة العربية الإسلامية مرحلة الانحدار العام، ثم الانحطاط الشامل، وشيوع وتغلغل الثقافة الكهنوتية الرجعية، والتزمت والتقليد، والغربة والغياب عن العصر والحضارة والحياة، بحيث ما زال معظم المسلمين يفكرون ويتحركون ويحاربون اليوم، في القرن الحادي والعشرين بعقليات وقضايا وشعارات كانت قائمة في القرن السابع للميلاد!