في المساء تلقيت دعوة للمشاركة في وقفة احتجاجية لفتح الحصار عن تعز، في الصباح ذهبتُ إلى مكان الاحتجاج كصحفية أبحث عن المعلومات ولكنني عدتُ إلى المنزل كجثة بلا رأس، وقفنا في منطقة عقبة منيف المؤدية إلى جولة القصر المغلقة في مدينة تعز، كانت تفصلني خطوات صغيرة، عن الشق الآخر من المدينة، الشق الذي لم أره منذ سبع سنوات، عن تعز الأخرى التي باتت غريبة، كان يفصلني أيضًا بضع خطى عن الخروج لزيارة جدتي، جدتي التي تتوسد فراش الموت في القرية منذ زمن، كان بيني وبينها ساعة من الزمن ولكن الآن الزمن أصبح بطيئا أعاق الرصاص سيره، ليصبح يساوي ست ساعات. 
 
أثناء وقفتنا أشار لي عجوز مسن إلى تبة من التراب قال "إن بيتي تقع خلفه ومنذ سنوات لم أتمكن من زيارتها، إنني أيضا أعاني هنا من تبعات الإيجار بينما تقع بيتي في خط النار" لم تتركني ذاكرتي أؤدي مهنيتي الصحفية كما يجب، لقد عدت أنظر مع الرجل المسن إلى التربة، إلى البيوت المهدمة وذلك الفراغ الذي يخيم على زاوية الطريق منذ سنين.
 
يا إلهي إنني أتشظى من الداخل، أريد الخروج إلى القرية حيث لا تزال روح الله خامة على أسوار الطبيعة، إلى مسقط رأسي وإلى جدتي، وبيتنا المحاذي للجبل، اشتقت إلى شجرة الباباي التي زرعتها مع أمي أمام منزلنا في القرية، اشتقت إلى صوتِ بقرة جارتنا العجوزة وإلى ذاك الهدوء.
 
في تلك اللحظة زارني صوت درويش، درويش يردد حروف قصيدته في ذهني "وحيدون نحن وحيدون حتى الثمالة لولا زيارات قوس قزح
لنا اخوة خلف هذا المدى
اخوةٌ طيبون يحبُّوننا.. ينظرون إلينا ويبكون ثم يقولون في سرهم: ليت هذا الحصارَ هنا علنيٌّ.. ولا يكملون العبارة.."
 
استمرت قصيدة درويش تجوب في رأسي حتى آخر خطوة استغرقتها للوصول إلى المنزل، لقد عدتُ فعلاً بلا رأس، لا يوجد للمعلومات حقل في رأسي، ولا للصحيفة عنوان في عقلي.
لقد نسيت رأسي عند آخر ذاكرة قضيتها مع أحبتي خلف أسوار الحصار، عند حقل جدي وشجرة الحُمر (التمر الهندي الحامض) في ريف شرعب، في تعز الأخرى في تعز الدامية شوقا لأحبتها.
 
قال عبد الله البردوني، "يمانيون في المنفى ومنفيون في اليمن" سمعت هذه العبارة كثيرًا لكنني اليوم أحسست بوقعها، كيف أصبحنا منفيين داخل هذه الجغرافيا الصغيرة، منفيين في تعز، محاصرين، شعارنا الألم والجوع، وقاتلنا الحنين، أبكي طويلًا ولا شيء يسمعني غير أذن الوسادة، وأسأل نفسي كم لبثت الحرب في اليمن، كم شهيدًا مات تحت سماء تعز، وكم أرملة الآن تنحب مقتل زوجها مثلما أنحب أنا مقتل شوقي وحنيني على أسوار الحصار.
 
مد لي يدك أيها الخيط المتبقي لشتاتي، هادئ هذا الليل لا يكترث لصوت أطفال قلبي الجياع، وهذا الصراخ على متن الذاكرة، أصوات المدافع والطائرات وضحايا الحرب وكل الكوارث التي عايشتها في البيئة الصحفية، الصحافة سكينة تطعنك بعد المنتصف..
 
ليت لي قلب كقلب عمتي المسنَّة التي لا تسمع شيئاً غير صوت غنمتها في ريفها الدافئ، ريفها تلك البقعة المنسية من الحرب. تتصل عمتي في كل صباح سائلة "هل أطلقوا الرصاص والمدافع" نجيبها بلا؛ كي تطمئن وقلوبنا هنا تحترق بدلاً عن طناجرنا، طنجرة أمي باردة منذ أن انقطع الغاز عن المدينة. أيها المسؤول أيها السياسي المغرد بالإنسانية على حافة تويتر!! إننا نطهو أيامنا، نطهو دروبنا والأعداد على تواريخ ميلادنا..
 
جميعها مسامات جسدي تتحدث تنطق شِعرًا وألماً.. والشعراء آه الشعراء والأدباء تتقافز كلماتهم من على جسمي، تقول رضوى عاشور "لن أرحل لأن اللِّسان لا ينكر لغته، ولا الوجه ينكر ملامحه" وكأنها تصف عدم قبول رأسي بالرحيل، رأسي الواقف على بن أمي، وصوت جارتنا من الشرفة تنادي "لقد قتل قائد اللواء" قتل عدنان الحمادي آخر المتارس الصادقة في الوطن.
 
ماذا يعني الوطن بالنسبة لكِ يا أمي؟؟ تجيبني: "إنه لقمة دسمة للسياسيين".

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية