"عشنا الجحيم"، و"اعتقدنا أنها نهاية العالم".. عبارات لخصت حجم الصدمة وهول الكارثة التي حلت بالجزائر بعد حرائق الغابات.

هي شهادات ناجين من حرائق الغابات أو "عائدين من موت محقق"، يتحدثون غير مصدقين بأنهم لازالوا أحياء، لم تحترق أجسادهم لكن قلوبهم وذاكرتهم من احترقت، هكذا قالوا لـ"العين الإخبارية" وهم يصفون هول ما حدث بـ"محرقة الغابات".

واجتاحت الجزائر، منذ الأسبوع الماضي، حرائق مهولة غير مسبوقة في 20 محافظة كاملة، راح ضحيتها 169 شخصاً وعشرات الجرحى، فيما لازالت جهود الجيش وفرق الدفاع المدني متواصلة لإخماد ما تبقى من الحرائق.

 

"نهاية العالم"

منطقة تيزي وزو شرقي الجزائر كانت أكثر المدن تأثرا بحرائق الغابات، كان لها النصيب الأكبر من عدد الضحايا والجرحى والخسائر المادية.

الكل هناك أراد التعبير عن ما عاشه من صدمة، لكن القليل منهم فقط من استطاع التعبير عن مشاعر تلك الصدمة، القليل منهم فقط من تمكن من تركيب جملة تؤرخ لمأساة ألمّت بالمنطقة.

"لونيس" شاب في الـ26 من عمره من بلدة "واضية" التابعة لولاية تيزي وزو، واحدة من أجمل بلدات المنطقة، والمشهورة بـ"مدينة التعايش بين الأديان".

كان هادئاً حين التقته "العين الإخبارية"، "يبتسم بتدرج"، هي الصدمة المخفية وراء قوة شخصيته التي جعلته يصارع التبعات النفسية لهول ما عاشه في بلدته الصغيرة.

"لونيس" رياضي يحب رياضة كمال الأجسام، ومتابعة الرسوم المتحركة اليابانية، وأفلام الخيال العلمي ككثير من شباب المنطقة والجزائر، وجدته "العين الإخبارية" حينها يحاول نسيان ما جرى بممارسة الرياضة في منزله.

هو المنزل ذاته الذي فر منه لونيس وعائلته، منذ الأسبوع الماضي، لم يعودوا إليه إلا منذ 4 أيام فقط كما قال لـ"العين الإخبارية"، وجدوه على "نصف حال" أو نصفه محترق ونصفه الآخر نجا من الكارثة، أما أرضهم الزراعية فلم يبق منها إلا أشجار معراة وأرض سوداء جرداء.

 

 

سألته "العين الإخبارية" عن حاله من باب اختبار نفسيته بعد الكارثة فكان جوابه: "ماذا عسانا أن نفعل، نحمد الله على كل شيء".

ظهر "لونيس" هادئاً بطبعه، صابرا على ما حل بهم، لكن ما خفي في داخله كان أعظم، عندما سألته "العين الإخبارية" عن كيف عاش تلك اللحظات المرعبة.

قال الشاب: "لم نستوعب في البداية ما حدث، حرائق بدأت صغيرة ثم انتهت محاصرة البلدة من كل زاوية، كانت تقترب من كل شجرة ومن كل أرض فلاحية ومن منزل كأنها فيضان، لا شيء كان قادرا حينها على إيقافها".

وتابع ساردا شهادته: "فهمنا منذ بداية اندلاع تلك الحرائق بأن ورائها كارثة، قررنا نحن سكان البلدة الهرب وترك منازلنا، لم يكن بوسعنا إنقاذ أي شيء إلا أرواحنا".

وأضاف "أطلقنا نحن شباب البلدة نداءات استغاثة عبر مواقع التواصل واتصلنا بمعارفنا في البلدات المجاورة، أبلغناهم بأن النيران تأكل البلدة، الكل لبى النداء، الكل حاول بما استطاع أن يخمد النيران أو ينقذ الأهالي، ثم جاءت فرق الحماية المدنية (الدفاع المدني) وتمكنت من أبعاد الحرائق عن كثير من المنازل، لم يكن أمامها إلا ذلك لإنقاذ الأرواح، ثم سمعنا بوصول وحدات من الجيش".

 

 

الشاب لونيس راح يواصل قصته مع كارثة الحرائق، وقال: "صحيح الكل تجند لإخماد الحرائق وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن لم نشعر حينها بأي إحساس أمل بالنجاة، كانت أحاسيسنا مجمدة، تذكرت حينها الأفلام التي كانت تتوقع نهاية العالم، واحد منها كان بحرائق مهولة".

واستطرد قائلا: "في تلك اللحظات والأيام أصبحنا منعزلين عن العالم، كنا نعتقد أن مصير هذه البلدة وهي محاصرة بالحرائق هو نفسه مصير العالم، الأمر كان غريباً جدا، هناك من كان يطفأ النيران لكنها تعود للاشتعال مرة أخرى، وهناك استعمل كل الوسائل لكن لهيبها كان يزداد ويمتد".

 

 

"لونيس" أكد بأنه "لم ير في حياته حرائق بهذا الشكل"، وتحدث عن صدمته الأولى عند سماعه أخبارا من أهل البلدة وهم يتحدثون عن أشخاص تفحموا في هذه الحرائق، قال عنها: "مع كل اسم كان يُذكر كانت الصدمة تشتد، لكن لم يكن الوقت حينها للحزن أو للبكاء على من راحوا".

وختم شهادته بكلمات معبرة حينما قال: "الحمد لله على كل شيء، ليس لدينا وقت الآن للدموع والتحسر، سنعيد للمدينة نبضها وحياتها، لا أعرف كيف، لكننا نملك الإرادة لذلك، هذه هي تركيبة كل شخصية في هذه المناطق، نسقط لكن لدينا القدرة على النهوض".

 

احترق الغالي وبقي النفيس

في هذه الأثناء، لمحنا سيدة بمنزل "لونيس"، أخبرنا بأنها والدته، كانت ترتدي الزي التقليدي لمنطقة القبائل التي تسمى "الجبة القبائلية"، بألوانها المعروفة: البرتقالي والأصفر والأزرق وبعض من الأحمر.

قال "لونيس" عن حال والدته: "مسكينة، رغم قوتها التي ورثناها، إلا أنها كانت أكثرنا تأثرا بما حدث، لم تعد تتكلم كثيرا، هي هكذا، تحاول إخفاء ضعفها بالسكوت".

تقربت "العين الإخبارية" من والدة "لونيس" عندما كانت منهمكة بتنظيف المنزل وإزالة ما أصاب نصفه من حرائق، كانت حينها تجمع ما احترق في أكياس كبيرة وتضعها أمام المنزل.

سألتها "العين الإخبارية": "كيف حالك الحاجة" (لقب يطلق على النساء كبار السن في الجزائر)، فردت: "الحمد لله، مرحبا بك يا بني".

 

ثم واصلت "العين الإخبارية" سؤالها عن ماذا تفعل، ما فهمناه من كلامها أن جوابها لم يكن على السؤال الذي طرحناه، بل على ما يبدو كان ردا على ما يدور في داخلها.

كانت كلمات مبهمة، ليس لصعوبة اللهجة القبائلية الأمازيغية، بل لأن تلك السيدة لازالت تعيش تحت الصدمة، لازال تفكيرها متوقفاً عند هول كارثة الحرائق التي حاصرت البلدة التي لم تعرف سواها.

احتجنا حينها لترجمة ابنها "لونيس" لما قالته، "لونيس" لم يترجم الكلمات، بل ترجم إحساس والدته، قال ما أرادت قوله لنا.

 

 

يقول "لونيس" مبتسماً "أحاول مساعدتها لكنها ترفض، صدمتها ليست من احتراق هذا الجزء من المنزل أو الأرض التي تعبت من أجلها وقدمت لها الكثير، فهي لم تصدق لحد الآن أن أبنائها نجوا من تلك الحرائق".

وتابع قائلا: "والدتي أرادت أن تقول لك، كل شيء يعوض إلا أبنائي" ثم قبّل جبينها، وراح متابعاً كلامه: "حين اندلاع الحرائق لم تفكر لحظة في المنزل أو الأرض، هي من أمرتنا بالمغادرة فورا، ربكنا السيارة وابتعدنا، صحيح كنا نختنق، لكن كنا في قارب واحد، كانت مرتاحة وهي ترى جميع أبنائها أمامها، كانت نظراتها تقول: فليحترق كل شيء المهم أنكم أمامي".

 

مخاطرة وصدمات نفسية

انتقلت بعدها "العين الإخبارية" إلى مدينة "تيقزيرت"، من أشهر البلدات السياحية في منطقة القبائل التابعة أيضا لمدينة تيزي وزو.

التقت بـ"كمال" مالك منازل للمصطافين، سرد لـ"العين الإخبارية" ما عاشته المدينة أيام الحرائق.

قال كمال لـ"العين الإخبارية": "الحمد لله، تيقزيرت لم تتضرر كثيرا من الحرائق، لكن ما يصيب البلدات المجاورة فهو يصيبنا".

 

 

وكشف الرجل عن الساعات الأولى لاندلاع الحرائق، إذ تحدث عن اجتماع أهالي المدينة واتفاقهم على أن يتم تقسيمهم إلى مجموعات، وأن تنتقل كل مجموعة إلى بلدة مجاورة لمساعدتها على إخماد الحرائق.

وتابع قائلا: "كانت نيران البلدات المجاورة ترى بالعين المجردة، بلدات صغيرة تحيط بها الأشجار والغابات من كل جانب، لم يكن أمامنا إلا سرعة التدخل، لم نكن نملك شيئا لإطفاء تلك الحرائق، حلمنا أدوات بدائية، وتبرعت المحلات هنا بالمياه المعدنية، نقلناها معنا لنطفأ بها النيران".

كمال كان في المجموعة التي انتقلت إلى بلدة "أزرا" التي قال إنها تضررت بشكل كبير من الحرائق، وفقدت الكثير من سكانها.

 

 

يقول كمال أيضا: "عند وصولنا إلى أزرا وجدنا الناس تجري هاربة من النيران، مواكب سيارات وآخرون لم يكن أمامهم إلا الهروب مترجلين، بدأنا في محاولاتنا إخماد الحرائق من أمام المنازل، كان الأمر صعباً جدا إلى درجة المستحيل، النيران كانت أقوى من المتوقع، كنا نردد (الله أكبر)".

مضيفاً: "ونحن نحاول إخماد الحرائق لاحظنا جثتين متفحمتين، كان المشهد بشعاً وصادماً، تأكدنا حينها بأننا أمام كارثة وخطر داهم لا يمكن إيقافه، شعرنا حينها بفشل رهيب، هل نكمل المحاولة أم نفر ونترك قدر المدينة كما هو".

 

 

واستطرد شهادته بالقول: "لحق بنا حينها بعض من أهالي هذه البلدة، كنا نستمد القوة من بعضنا، من ذلك التكاتف والتحدي، تمكنا بعد ساعات من إخماد جزء من الحرائق التي كانت أمامنا، وانطلقنا نحو جهة أخرى لعلنا نحاصر النيران".

وهنا كشف لنا كمال عن صدمته مما حدث، وقال: "خلال تنقلنا سمعت أحد سكان البلدة يذكر اسماً ممن احترقوا في النيران، كان أقرب أصدقائي منذ الصغر، لا أخفي عليكم، عند تنقلي إلى البلدة نسيت أن لي شخصاً عزيزا فيها، ما كان يهمني هو المشاركة في إنقاذ الأرواح".

وتابع: "لم أصدق أن من بين تلك الجثتين المتفحمتين كان صديقي المقرب، لم أتعرف عليه، يا إلهي، ترك رضيعاً وكان ينتظر ابناً آخر، لم يكن وحده، هناك أقرباء لي قضوا في هذه الحرائق ببعض البلدات المجاورة، كان كابوساً حقيقياً، نسأل الله اللطف بنا".

 

 

 

 

 

 

 

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية