لبنان على حافة الانهيار وأوروبا تلوح بالعقوبات
يئن لبنان تحت وطأة ظروف اقتصادية متردية وأزمة سياسية خانقة، إذ أنه لا يزال بلا حكومة منذ أكثر من عام فيما يحذر خبراء من أن الاقتصاد اللبناني على شفا الانهيار بعد عقود من سوء الإدارة والفساد. وشهد الشهر المنصرم الكثير من القصص، بعضها "تافه" وبعضها "مرعب"، حيال ما وصلت إليه الأمور في لبنان.
فعلى سبيل المثال، أعلن الجيش اللبناني إطلاق رحلات جوية سياحية للمدنيين للتجول فوق لبنان على متن مروحيات عسكرية مقابل 150 دولار للرحلة لتوفير عائدات مالية للجيش في خطوة جاءت في وقت أفادت فيه تقارير بأن مسلحين يتجولون في شوارع مدينة طرابلس شمال البلاد ويقيمون حواجز على الطرق.
سجل حزين
تزامن هذا مع تقديرات أشارت إلى أن ما يقرب من نصف اللبنانيين باتوا الآن يعيشون تحت خط الفقر، بسبب الأزمة التي تعصف بالبلاد. فيما كشف تقييم صدر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) عن أن قرابة 77 بالمائة من الأسر اللبنانية ليس لديها ما يكفي من الطعام أو حتى المال الكافي لشراء مواد غذائية.
وسبق هذا ما ذكره البنك الدولي في مطلع الشهر الجاري من أن الأزمة اللبنانية ربما تكون ضمن واحدة من أسوأ ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. فقد ذكر باحثون من البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي في لبنان يشهد انخفاضا منذ عام 2018 بالتوازي مع سعر صرف غير رسمي. وأضاف الباحثون أن "مثل هذا الانكماش الكبير والسريع يرتبط عادة بالصراعات أو الحروب".
يشار إلى أن الليرة اللبنانية ترتبط بالدولار الأمريكي، لكن لا يوجد سعر صرف ثابت وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى سوق موازِ غير رسمي أو ما يُطلق عليه (السوق السوداء) لبيع العملات بأسعار غير ملائمة. وعلى وقع هذا الأمر، يلقي معظم اللبنانيين باللائمة على قادة البلاد، ويحملونهم مسؤولية الأزمة الراهنة.
فبعد الحرب الأهلية التي دارت رحاها لأكثر من 15 عاما وانتهت في عام 1990 أسفر "اتفاق الطائف" عن تقسيم السلطة بين 18 طائفة دينية معترف بها في لبنان. بيد أن هذا الاتفاق مهد الطريق أمام عقود من الفساد، ما أدى في نهاية المطاف إلى انهيار شبه كامل للنظام المصرفي اللبناني.
العقوبات سترغم المسؤولين على الاتفاق!
وأثارت الأزمة الاقتصادية المتردية في لبنان دعوات من بعض اللبنانيين إلى ضرورة تحميل قادة البلاد، مسؤولية الواقع المرير. وفي هذا السياق، قال جيلبرت كفوري - أحد سكان بيروت – في مقابلة مع DW "أعتقد أنه يجب تحميل (السياسيين اللبنانيين) المسؤولية إذ أنهم الأشخاص الذين قادوا البلاد إلى هذه النتيجة." وأضاف "لدينا الآن دولة مفلسة بلا كهرباء ولا بنية تحتية ولا وقود ولا أمن، ومجاعة. والأمور تتفاقم يوما بعد يوم. ورغم ذلك، لا يزال السياسيون يتربعون على كراسيهم من دون محاسبة!".
ويتفق في هذا الرأي مصطفى مراد - أحد سكان العاصمة – الذي طالب الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على السياسيين اللبنانيين وذلك "على افتراض أن غالبيتهم فاسدون". ويؤكد أن هذا الأمر يعد "الطريق الوحيد الذي سيدفعهم لبدء المساومات بشأن تشكيل الحكومة الجديدة".
في المقابل، يتفق بعض السياسيين في التكتل الأوروبي على مقترح فرض العقوبات، والذي عبر عنه لبنانيون غاضبون من أن بلادهم لا تزال حبيسة أزمة سياسية واقتصادية متردية. فمنذ مايو/ أيار الماضي، يعكف مسؤولون داخل الاتحاد الأوروبي على إعداد عقوبات محتملة ضد مسؤولين لبنانيين.
ويأتي هذا الأمر في ضوء أن العديد من أبناء النخبة السياسية والثرية في لبنان يسافرون بشكل مستمر إلى أوروبا بل يمتلكون منازل وشركات في البلدان الأوروبية. وفي منتصف يونيو/ حزيران، ذكرت وكالة رويترز أن صحافيين اطلعوا على مذكرة دبلوماسية تشير إلى أن معايير فرض العقوبات ستكون على الأرجح "الفساد وعرقلة جهود تشكيل الحكومة وسوء الإدارة المالية وانتهاكات حقوق الإنسان."
يأس وإحباط
وكان الشهر الماضي قد شهد زيارة مهمة قام بها الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى لبنان. وقال المسؤول الأوروبي عقب الزيارة "إننا على استعداد للمساعدة... لكن إذا كان هناك المزيد من العراقيل أمام الحلول للأزمة الحالية متعددة الأبعاد في البلاد، فسيكون علينا بحث مسارات عمل أخرى كما اقترحت بعض الدول الأعضاء.. بما في ذلك فرض عقوبات محددة الأهداف".
لكن حتى الآن لم تصدر تصريحات رسمية حيال توقيت فرض العقوبات وهل ستشمل قادة البلاد؟ وتدعم فرنسا وألمانيا هذا المقترح، إذ أكدت السفارة الألمانية في لبنان خلال مؤتمر دعا إلى إجراء مزيد من التحقيقات حيال انفجار مرفأ بيروت، أن الاتحاد الأوروبي يدرس فرض عقوبات ضد القادة اللبنانيين.
أما فرنسا، فقد اتخذت بالفعل خطوات أحادية الجانب في هذا الصدد إذ بدأت في منع إصدار تأشيرات لبعض المسؤولين اللبنانيين في أبريل/ نيسان الماضي. وفي هذا السياق، يقول جوليان بارنز داسي، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، "أعتقد أن الحكومات الأوروبية تشعر باليأس الشديد والكثير من الإحباط".
وفي مقابلة مع DW، يضيف داسي "لا أعتقد أن السؤال يتعلق في الحقيقة حيال ما إذا كان (فرض العقوبات) سيكون صارما بالقدر الكافي، بل إنه يتعلق بفكرة هل ستكون العقوبات فعالة؟".
سخرية النخبة اللبنانية
ويشدد داسي على أن النظام اللبناني بأسره في حاجة إلى تغيير جذري، مشيرا إلى أن "النخبة السياسية اللبنانية ربما تكون مستعدة لرؤية البلاد تتدهور أكثر فأكثر، بدلا من اتخاذ خطوات قد تهدد سيطرتها على الاقتصاد والسياسية في لبنان".
ويتفق مع هذا الرأي جوزيف باحوط أيضا، مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأمريكية في بيروت. ويضيف "تنتاب الطبقة السياسية في لبنان الشعور بالسخرية. فأبناء هذه الطبقة يشاهدون الأزمة تزداد سوءا يوما بعد يوم، لكنهم يضحكون حيال الأمر." ويستشهد باحوط برد فعل بعض السياسيين على منع فرنسا إصدار تأشيرات لبعض المسؤولين اللبنانيين. ويقول "أبناء النخبة اللبنانية عادة ما يمتلكون جوازات سفر أخري ويدخلون بها إلى أوروبا عبر دولة أخرى مثل إيطاليا. لذا يمكن أن نرى صورا لهم وهم يتسوقون في باريس أو نيس".
خطر محتمل
وإزاء الطرح بفرض عقوبات أوروبية على بعض المسؤولين اللبنانيين، يحذر خبراء من تداعيات الأمر. وفي ذلك يقول شاهين والي، رئيس برنامج الجغرافيا الاقتصادية في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية، إن فرض العقوبات قد يكون أيضا خطيرا.
ويضيف والي الذي كتب في سبتمبر/ أيلول 2020 تقريرا سياسيا عن الأزمة في لبنان، أن "العقوبات إما أن تكون ضد كافة السياسيين اللبنانيين كتلة واحدة، أو قد تكون عقوبات محددة الأهداف. لكن هذا الأمر قد يثير خللا في النظام السياسي. وفي هذه الحالة فإن العقوبات ستأتي بنتائج عكسية." ويشير الباحث إلى أنه إذا اختار الاتحاد الأوروبي سياسيين بعينهم لفرض عقوبات عليهم، فإن الاتحاد الأوروبي بهذا الأمر "يضع السياسيين في لبنان في مواجهة بعضهم البعض".
بدائل عن العقوبات
ويعتقد الباحثان والي وباحوط أن هناك وسائل أخرى أفضل من فرض العقوبات، إذ يوصيان بممارسة المزيد من الضغوط على النظام المالي اللبناني كأحد البدائل. ويؤكد والي على أهمية الدفع نحو إجراء المزيد من الشفافية داخل النظام المالي في لبنان، فيما يعتقد باحوط أن الوكالات المالية في الاتحاد الاوروبي يمكنها بذل الكثير من الجهد لتسهيل هذا الأمر.
سويسرا.. كلمة السر؟
ويشرح باحوط طرحه بقوله "بصراحة أعتقد أن ما سيكون أكثر فائدة للشعب اللبناني من فرض عقوبات، هو تحقيق وصول أفضل للمعلومات المصرفية في دول مثل فرنسا وسويسرا". ويضيف أنه هذه الدول تعد الجهة التي يقوم السياسيون الذين يشتبه في تورطهم في جرائم فساد في لبنان بتحويل أموالهم إليها.
ويشير إلى أن وجود "بعض النفاق، إذ أن هذه الأماكن (أو الدول) تمتلك أدلة على ما تم سرقته من الشعب اللبناني. لذا فأعتقد أنه سيكون من الأفضل للاتحاد الأوروبي أن يبلغ (السياسيين اللبنانيين الذين يشتبه في تورطهم في جرائم فساد) أنه بمقدوره مساعدة اللبنانيين في فضخ هذا الأمر".
من جانبه، يقول والي إن هذا الأمر قد يتزامن أيضا مع إقدام الاتحاد الأوروبي على تقديم الدعم للفئات اللبنانية الأكثر ضعفا وكذلك دعم الأصوات اللبنانية التي تطالب بالتغيير. يضيف "ما زلت أعتقد أن الطريقة المثلى أمام الاتحاد الأوروبي لدعم لبنان تتمثل في تقديم المساعدة للمجتمع المدني المحلي والمنظمات الشبابية التي تسعى لإحداث تغيير في النظام السياسي من رأس هرم هذا النظام إلى قاعدته".
المصدر: م ع