تقرير أمني لبناني يكشف الفساد الجمركي عبر المنافذ الحدودية وخروجها عن السيطرة
بيّن تقرير أعدته وزارة الداخلية اللبنانية عقب الأزمة مع السعودية التي سبّبها اكتشاف كميات كبيرة من المواد المخدرة موضّبة بشكل مموّه ومحترف في أحد الموانئ السعودية مصدرها لبنان، أن معظم المنافذ البرية والبحرية في البلد تعتمد على التفتيش اليدوي بسبب غياب الماسح الضوئي (السكانر) القادر على اكتشاف ما تحتويه المستوعبات بدقائق، بالتالي إحباط عمليات التهريب والتلاعب في بيانات البضائع.
ويكشف مضمون التقرير عن أن عملية إدخال بضائع مهرَّبة من سوريا إلى لبنان عبر المعابر الرسمية وصولاً إلى مرفأ بيروت ومن ثم تصديرها ليست عملية معقدة، إذ إن عمليات التفتيش يدوية وبدائية، وإن عديد العناصر المناط بها دور التفتيش غير كافية، وعملية تعيينها في نقاط محددة خاضعة للمحاصصة المناطقية والطائفية، الأمر الذي يجهض الجهود الجدية في مكافحة هذه المعضلة.
وتُظهر بيانات منشورة على موقع البنك الدولي أن نسبة مداخيل الرسوم الجمركية من إجمالي مداخيل الدولة اللبنانية، انخفضت من 60.18 في المئة عام 1997 إلى ما دون الـ6 في المئة في الأعوام الأخيرة، الأمر الذي يؤكد وجود تلاعب في بيانات البضائع المستوردة، بغية التهرب من الرسوم الجمركية المستحقة لصالح الخزانة اللبنانية، ما يعكس برأي المراقبين السبب الحقيقي وراء غياب أجهزة الماسح الضوئي "السكانر" عن معظم المنافذ الحدودية البرية والبحرية.
وتشير المعلومات إلى أن نحو 1200 "مستوعب" يعبر يومياً مرفأ بيروت ولا يتم الكشف يدوياً سوى على 235 منها فقط، وأن التهريب الجمركي يحصل عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية ويبقى مرفأ بيروت في صدارة المرافق العامة التي يتم فيها تهريب جمركي يُقدَّر بحوالى مليار ونصف مليار دولار أميركي سنوياً، لا سيما أن 73 في المئة من التبادل التجاري يتمّ عبر المرفأ. وتُسجّل البضائع في خانات غير تلك التي تتناسب معها، أو تُستخدم بيانات جمركية مزدوجة للبضائع ذاتها، بهدف التحايل على خزانة الدولة، ويسهّل التلاعب، غياب الماسح الضوئي (السكانر)، الأمر الذي يُعتبر قمة الفضائح لناحية المداخيل التي تخسرها خزانة الدولة، إذ إنه لو تم إخضاع الواردات كافة للكشف الدقيق عبر "السكانر"، لكانت إيرادات الدولة ترتفع بين 500 مليون دولار ومليار دولار، لتتجاوز إنتاجية المرفأ 3 مليارات دولار.
رشاوى وفساد
وتظهر تقارير أمنية عدة عمليات الفساد الجمركي عبر المنافذ الحدودية، لا سيما في مرفأ بيروت حيث يتقاضى الموظفون رشىً لقاء معاملات إخراج البضائع، تتنوع بحسب نوع البضاعة التي يسرّعون تمريرها أو يخفضون رسوم مرورها أو يغضون النظر عنها.
وقدّر الباحث في "مركز الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين، الذي نشر دراسات عدة حول الفساد والتهرب الضريبي في لبنان، إيرادات إدارة المرفأ السنوية بنحو 220 مليون دولار يعود منها فقط 60 مليوناً إلى خزانة الدولة، موضحاً أن "البقية يفترض أنها تُستخدم للرواتب والأجور ولتطوير المرفأ ومن ضمنها شراء وصيانة الماسح الضوئي الذي بات من المعايير الأساسية في أي مرفأ دولي".
وأشار إلى أن "عمليات التهريب تتم في معظم الأحيان عبر جمعيات خيرية وهمية تستحصل على قرار من الحكومة يعفيها من الرسوم الجمركية، في حين يسهّل غياب السكانر المعطّل بشكل شبه مستمر عمليات الاحتيال الجمركي".
وتلفت مصادر في الجمارك إلى أن أحد أبرز الأسباب التي تعيق مناقصات شراء أجهزة "سكانر" هي الخلافات على الصلاحيات في القطاع بين المديرية العامة والمجلس الأعلى للجمارك، الأمر الذي علّق أيضاً تطويع 853 عنصراً فيها.
شركة رقابة عالمية
في السياق، أكدت مصادر في وزارة الاقتصاد والتجارة أن لبنان يدفع ثمناً اقتصادياً باهظاً نتيجة استسهال عمليات التهريب، إذ تُستنزف مقدرات الخزانة من العملة الصعبة عبر تهريب المحروقات والسلع المدعومة من لبنان إلى سوريا من جهة، ونتيجة دخول وخروج بضائع من دون إجراء المقتضى الجمركي من جهة أخرى، لا سيما لناحية تغيير نوع المحتوى المستورَد أو المورَّد، وحتى التلاعب بالأوزان من أجل التهرب من الرسوم الجمركية أو تصدير بضائع ممنوعة كالمخدرات التي غزت العالم العربي انطلاقاً من لبنان.
وجزمت المصادر ذاتها بوجود أجهزة "سكانر" في المرفأ كما في بقية المعابر الشرعية، "لكنها لا تعمل ليس بسبب أعطال تقنية حصراً، إنما لأن مصالح عصابات التهريب تقتضي عدم تشغيلها بالتنسيق مع بعض المرتشين من موظفين وأمنيين". واعتبرت المصادر أن استمرار الفلتان على المنافذ اللبنانية له تبعات كارثية على صيت البلد في الخارج، وتبذير أموال المواطنين.
وحول سبل معالجة التسيّب الحدودي المستمر، تشير مصادر وزارة الاقتصاد إلى أنه "طالما هناك غطاء أمني وسياسي لتلك العصابات، لن يكون هناك أي حل"، مؤكدةً أنه "في حال استُقدمت أجهزة سكانر جديدة، فستنال مصير سابقاتها وتتعطل خلال أيام"، مقترحةً توكيل شركة رقابة عالمية تدير عمليات الاستيراد والتصدير بشكل شفاف خلال مرحلة انتقالية بالتنسيق مع الوزارات المختصة إلى حين إعادة هيكلة جهاز الجمارك لناحية العديد المطلوب والتدريبات الضرورية.
المافيات أقوى من الدولة
في السياق، كشف العميد في قوى الأمن الداخلي ناجي ملاعب عن أن "جزءًا كبيراً من عمليات التهريب في لبنان تحصل عبر المنافذ الرسمية، من خلال تمويهها في شاحنات مقفلة، فتكون البضائع التي تحملها مختلفة عن الأوراق الرسمية، ومدمجة مع بضائع أخرى لضمان مرورها بشكل آمن"، مؤكداً أن "غياب الماسح الضوئي عن المنافذ الحدودية البرية والبحرية مقصود وبالتواطؤ بين العصابات والجهات السياسية التي لطالما أحبطت إمكانية شراء تلك الأجهزة للكشف عن عمليات التهريب".
ولفت العميد ملاعب إلى أنه "سبق لمجلس الدفاع الأعلى أن اتخذ قرارات بشراء أجهزة ماسح ضوئي عدة لوضعها في المنافذ البرية والبحرية، لكن هذا القرار لم ينفّذ"، معتبراً أن "الجهات المعنية تتعامل مع هذا الموضوع باستخفاف. وصدرت تقارير عدة قبل انفجار مرفأ بيروت، أشارت إلى أن إدخال أطنان نيترات الأمونيوم إلى العنبر رقم 12، حصل من دون حسيب أو رقيب بسبب غياب أجهزة سكانر التي جرى تعطيلها عمداً". وأكد ملاعب "وجود سوء نيّة في الكشف عن البضائع لدى بعض العناصر الأمنية الشريكة لتلك المافيات". واستبعد أن تكون الإجراءات التي يتم الحديث عنها أخيراً جدّية، "كون المافيات أقوى من الدولة ولا يوجد سياسي جدّي بهذا الشأن، ما يؤكد نيّة الإبقاء على عملية التهريب على المعابر الشرعية".
جهاز وحيد
وتشير بيانات وزارة الداخلية إلى أنه لا يوجد أي جهاز "سكانر" يعمل على المعابر الرسمية الخمسة على الحدود اللبنانية - السورية، في حين هناك جهازان معطلان في مرفأ بيروت وإمكانية إصلاحهما صعبة، أما الماسح الضوئي الموجود في مرفأ طرابلس، فهو الوحيد القابل للصيانة وإعادة التشغيل.
ووفق المعلومات، تمّت صيانة جهاز "سكانر" في مرفأ طرابلس بكلفة لم تتجاوز ألف دولار أميركي، الأمر الذي صدم كثيرين لناحية ترك هذا الجهاز معطلاً لأعوام والتذرع بعدم وجود عقد لصيانته. إلا أن هذا الجهاز وبعد إصلاحه، أثار إشكالية جديدة بعد التوصيات التي توصّل إليها الاجتماع الأمني المتعلق بضبط الحدود، لا سيما البحرية منها، فتوالت المواقف الرافضة لنقله من مرفأ طرابلس إلى مرفأ بيروت لتعزيز حركة الصادرات لمدة ستة أشهر ريثما يصار إلى شراء أجهزة جديدة.
واعتبر النائب سامي فتفت أن "هذا الجهاز هو حق لمرفأ طرابلس ولأهل الشمال، ولن نقبل بنقله أو استخدامه في أي فترة من الفترات خارج مرفأ المدينة"، مؤكداً السعي الدائم للحفاظ على هذه المنشأة لما لها من أهمية ومردود اقتصادي على أهل الشمال عموماً وأهل طرابلس تحديداً، مطالباً "القيّمين بتعزيز إمكانات المرفق، خصوصاً بعد الدور الريادي الذي لعبه في الفترة السابقة، والابتعاد عن اتباع سياسة الكيدية".
"خط المقاومة"
وتشير تقارير دولية عدة إلى الفساد المستشري في مرفأ بيروت الذي انكشف جزء كبير منه بعد انفجار الرابع من أغسطس (آب) الماضي، بحيث هناك التهريب والتهرب الضريبي ورشاوى وأرباح مناقصات ومزادات علنية مشكوك فيها ورواتب خيالية يستفيد منها موظفون رفيعون ومحسوبون على القوى السياسية.
وكان رئيس مجلس شورى الدولة السابق، القاضي شكري صادر كشف في تصريح عن وجود "خط عسكري" لـ"حزب الله" في المطار ومرفأ بيروت، يمكّنه من تمرير ما يريد، تحت شعار "بضائع للمقاومة" تدخل من دون تفتيش أو رقابة، موضحاً أن "خط المقاومة هو نتيجة اتفاق ضمني مع السلطات على ألا يقترب منه أحد".
إلا أن الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله لطالما أنكر أي دور لحزبه في المرافئ الرسمية، معتبراً أن الاتهامات التي تدّعي سيطرة الحزب على المرفأ والمطار غير صحيحة.
المصدر: الإندبندنت