مُنذ خمسة سنوات كاملة، لم تُفارق "الحاجة أم خضر" هاتفها اليدوي قط، تنتظر منه اتصالا من أحد ابنيها المفقودين منذ شهر يونيو العام 2016، اللذين فُقدا إلى جانب 641 مدني عراقي آخر من بلدة الصقلاوية الواقعة شمال مدينة الفلوجة العراقية، أثناء المعارك الضارية بين الجيش العراقي وفصائل الحشد الشعبي من طرف ومقاتلي تنظيم داعش الإرهابي من طرف آخر.

هؤلاء المختفون كانوا من النازحين الذين فروا مع عائلاتهم أثناء المعارك، ولما وصلوا إلى المناطق التي كانت فصائل الحشد الشعبي تسيطر عليها، فُصل الرجال والشُبان عن النسوة والصغار، ثُم فُقد أثرهم إلى الآن.

تقول "الحاجة أم خضر" في حديث مع "سكاي نيوز عربية": "أتذكر آخر جملة قالها ابني حينما تم الفصل فيما بيننا (يومى أكلمج بعد شوي/أمي سوف أكلمك بعد قليل)، وها قد مضت خمسة سنوات كاملة ولم أتلقَ تلك المكالمة، ولم يبقَ باب إلا وطرقناه بحثاً عن ابنينا اللذين كانا طالبين في المرحلة الثانوية، دون أن نتوصل لأية نتيجة".

نائبة المدير الإقليمي لمنظمة العفو الدولية، لين معلوف، قالت في تصريح إعلامي: "منذ خمس سنوات، وتعيش عائلات هؤلاء الرجال والصبيان في عذاب، ولا تعرف مصير أحبائها، أو ما إذا كانوا حتى على قيد الحياة. فقد انُتزع الصبيان الصغار من أحضان أباءهم وأمهاتهم، وتمزق شمل أسر بأكملها. ومن حق هذه العائلات أن تعرف ما حدث لأحبائها. فمن حقها أن ترى نهاية لمعانتها".

المنظمة الدولية أعادت التذكير بالتقاعس والسلبية التي تمارسه السلطات الرسمية العراقية تجاه الموضوع: "وحتى الآن، لم تصرح السلطات العراقية علناً قط عن نتيجة التحقيق في حالات الاختفاء والانتهاكات التي ارتكبت أثناء عملية استعادة الفلوجة، تاركة الأسر في حالة مستديمة من عدم اليقين".

وأضافت المنظمة الدولية مطالبة السلطات العراقية باتخاذ الإجراءات المفروضة عليها حسب واجبها الدستوري والقانوني: "يجب على السلطات العراقية وضع حد لهذا العذاب، والكشف عن مصير وأماكن وجود أولئك الذين اختفوا قسرياً على أيدي هيئة الحشد الشعبي. كما نحث السلطات على الإفصاح علناً عن نتائج تحقيقاتها الرسمية، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات".

حادثة مختفي الصقلاوية جرت بالضبط في الثالث من شهر يونيو من العام 2016، حينما فصلت وحدات من الحشد الشعبي أكثر من 1300 من صبية ورجال النازحين من منطقة الصقلاوية عن عائلاتهم، ثم تم اقتياد 643 منهم إلى مكان مجهول، ولم يُعرف مصيرهم حتى الآن.

انتقام وثأر

الباحث العراقي في الشؤون الأمنية عبد الأمير السبعاوي، قال في حديث مع "سكاي نيوز عربية": "حادثة الصقلاوية واحدة من أقسى أحداث العنف الطائفي الذي شهده العراق خلال الحرب المديدة في مواجهة داعش، كل الجهات تعرف ذلك وتسكت عنه. كانت جزء من عمليات الثأر التي مارستها الوحدات الطائفية للانتقام من الخسائر الفادحة التي كانت تقع في صفوفهم. فقد كانت تلك الجهات الطائفية تعتبر البيئة الأهلية للعرب السُنة متضامنة ومساعدة لداعش، لذلك لا تفرق بينهما".

الأمر الوحيد الذي فعلته السلطات العراقية هو تشكيل مكتب رئيس الوزراء العراقي وقتئذ حيدر العبادي للجنة تحقيقية بعد وقوع الحادثة بيومين، والتي لم تُعلن نتائجها حتى الآن، ولم تسعَ أية حكومة عراقية أخرى أية لجنة أو إجراء آخر.

لكن صُهيب الراوي، محافظ محافظة الأنبار -التي تتبعها ناحية الصقلاوية- أثناء وقوع تلك الأحداث، قال في تصريحات إعلامية عن اللجنة بعد تشكيلها بأيام قليلة: "وجدت دلائل كافية على تورط عناصر الحشد الشعبي في قتل 49 مدنيا وفقدان 643 آخرين".

وكانت الصقلاوية المنطقة التي شهدت أقسى المعارك بين تنظيم داعش وفصائل الحشد الشعبي أثناء معارك تحرير المناطق العراقية من سيطرة تنظيم داعش. فالصقلاوية كانت المنطقة التي فصلت مجموعة البلدات الفراتية المتتالية التي احتلها التنظيم وبين العاصمة بغداد، لذلك كانت مكاناً لوقوع أفظع الجرائم الطائفية.

منظمة "هيومن رايتس ووتش" واللجنة الدولية للصليب الأحمر أصدرتا تقارير وبيانات مطابقة لمضمونها لما صدر عن منظمة العفو الدولية، مُعتبرة بأن الكم الهائل من المختفين المدنيين من منطقة الصقلاوية والسكوت التام من قِبل السلطات العراقية يُثبت بأن العراق يشكل بؤرة لاختفاء المدنيين وتفاقم عمليات الانتقام الطائفي الناتج عن الشعور بإمكانية الإفلات من العِقاب.

المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب، والذي يُعد من أكثر المؤسسات العراقية رصانة في متابعة قضايا ضحايا العنف في العراق، كان قد قال في تقرير تفصيلي إن حادثة الصقلاوية هي واحدة من عشرات الحوادث الأخرى التي قامت بها ميليشيا الحشد الشعبي بجميع تشكيلاتها، حيث اعتقلت عشرات الآلاف من المدنيين العراقيين أثناء سنوات الحرب 2014-2017، من بلدات الفلوجة والكرمة والصقلاوية والموصل وجرف الصخر والرزازة وغيرها من المدن، وأنها لم تتوقف إلا مع اندلاع التظاهرات الاحتجاجية في مدن الجنوب العراقي في صيف العام 2018.

هذا وشكك الناشط السياسي العراقي جومرد بالكاني في إمكانية توصل السلطات العراقية لأية نتيجة بشأن مصير المدنيين المختفين، مذكراً باللجنة البرلمانية التي شكلها البرلمان العراقي منذ سنوات برئاسة رئيس البرلمان سليم الجبوري، التي قضت شهوراً من البحث، ثم توصلت إلى نتيجة باهتة، قالت إن الحادثة جرت في مناطق السلطة الحكومية العراقية.

وأضاف بالكاني في حديثه مع "سكاي نيوز عربية": "النواة الصلبة للسلطة الحاكمة تملك إرادة مطلقة لتغطية الأفعال التي تمت ممارستها، ولا يمكن لأي جهة كشف ما ترفض هذه السلطة التستر عليه".

 

 

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية