مثل غيري من أبناء الشعب اليمني، في الداخل والخارج، تابعت مقابلة قائد المقاومة الوطنية، رئيس مكتبها السياسي العميد طارق صالح، التي أجراها معه رئيس مركز صنعاء للدارسات الاستراتيجية، لأجد أمامي بساطة في الحديث ربما استلهمها من عمه الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح، لكن المتضمنة رؤى ناضجة وواقعية لموضوعات مهمة تعتمل في المشهد اليمني.
 
 ولأن المقابلة تعرضت لجوانب عدة، فسأقتصر في هذه السطور على جانبين تنبع أهميتهما من كون أحدهما يمثل صلب القضية السياسية الحاصلة والمتعلقة بمبدأ الولاية، والأخرى متصلة بمسألة إنسانية من الطراز الأول تتمثل في ملف الأسرى، ولارتباط هذين الملفين بكشف الكثير من التفاصيل التي تشخص الحوثية كإيديولوجية وأساليب.
 
في معرض رؤيته للحل السياسي للمشكلة اليمنية الراهنة والحرب الدائرة، لفت العميد طارق إلى أهمية أن تتخلى مليشيا الحوثي عن مبدأ الولاية وعقيدة الاصطفاء الإلهي كلغم شديد الانفجار يقف أمام أية مفاوضات جدية لتسوية الملف اليمني.
 
طرح كهذا يعبر عن نضج سياسي، إذ باستمرار تمسك المليشيا بخرافة الولاية، خصوصا وأنها تتجاوز في المفهوم الصفوي الفارسي، كأساس للفكر الحوثي، الولاية الدينية إلى الولاية السياسية، وهذا يعني ببساطة أن الدستور القادم إما يعالج المسألة في مواده الرئيسية عن الشكل السياسي للدولة، كما في الدستور الإيراني في ظل سلطة ولاية الفقيه، وإما أن يتجاهلها ليبقى في حالة وجود شكلي وموجِه من الدرجة الثانية لأنظمة وقوانين البلاد.
 
في الحقيقة أن محاولة الجمع بين المبادئ الدستورية الحديثة التي تتبناها الأطراف اليمنية السياسية الطبيعية وبين مبدأ الولاية، ليست إلا ضرب من الخيال والطوباوية السياسية، كون المبدأ الأخير يشكل العمود الفقري للإيديولوجية الإيرانية وقنواتها.
 
وفي حال اعتقاد رعاة التفاوض، بمن فيهم الإدارة الأمريكية الجديدة والبريطانيين، بإمكانية استيعاب مليشيا الحوثي والتزامها بدستور حديث، فإنها تقع في خطأ استراتيجي قد يوقف الحرب لفترة لكنه سيفجرها مع كل انتخابات، لا سيما إذا أرجئ تسليم المليشيا الحوثية لسلاحها، وفي أفضل مسارات التفاؤل سيدخل اليمن في دوامة أزمات لا تنتهي، تماما كما هو قائم في العراق ولبنان.
 
إشكالية أخرى مرتبطة بخرافة الولاية تكمن في منبعها الديني المزعوم، هذا المنبع الذي لا يحصرها في إطار الحدود السياسية للدولة، إذ من المعروف أن النظام الطائفي الصفوي يقوم على تراتبية هرمية، شبيهة بتراتبية الكنيسة الكاثوليكية، حيث يمثل المرشد الأعلى قمة الهرم، أو بابا الطائفة الصفوية، ولهذا نلحظ ولاء حزب الله اللبناني، وبعض فصائل الحشد الشعبي العراقي، وفصائل المعارضة الطائفية في البحرين، والحوثيين في اليمن، لسلطة المرشد في إيران، ولو على حساب بلدانهم ومصالحها. 
 
من الخطأ فصل الوجه الديني القائم على خرافة الولاية والاصطفاء الإلهي، عن الوجه السياسي في الحركات الصفوية عموما، لأن إيديولوجيتها تقوم في جذرها على الارتباط بينهما.
 
كذلك فإن خرافة الولاية تتلاحم عضويا مع أسطورة الاستضعاف والاعتقاد بالاحتيال والاغتصاب للحق الإلهي في الولاية، وما نتج عنها من عقدة المؤامرة والمعركة المستمرة مع وسط محيط - داخلي " منافق" وخارجي "كافر" يواليان بعضهما - يتسم بالعداء، الأمر الذي ينعكس على التعاطي السياسي مع مختلف الملفات، كما نشاهد إيران، المثل الأعلى للطوائف الصفوية، وخلقها معارك وهمية حرمت الأمم الإيرانية والشعب الإيراني من التمتع بثرواته الطبيعية الوافرة، والعيش في حياة فقر وعوز، بينما توجه "ولاية الفقيه" ثروات البلاد إلى برامج عسكرية لا طائل منها لو صدقت في ادعائها وتطورت العلاقات بينها وبين أمريكا "الشيطان الأكبر" إلى مواجهة عسكرية. كذلك منعتها العقدة الولائية من تحسين علاقاتها بدول الجوار العربي، وأخيرا أوقعتها في حبائل نفوذ صيني بيافطة الشراكة الاستراتيجية، كسبت فيها الصين استغلال المقدرات الإيرانية وبذات الحين بعضا من التواجد العسكري، لتنهار مزاعم مقارعة قوى "الاستكبار العالمي"، لبنان مثل ثانٍ، والعراق مثل ثالث، في ظل وجود مكونات سياسية تحمل ذات العقدة.
 

وتبعا لذلك ستكون وضعية عبدالملك الحوثي في المشهد السياسي اليمني في حالة تسويته على رأس جدول المفاوضات الحوثية، في الداخل، على مبادئ النظام السياسي المقبل، وإن أظهرت المليشيا أمام المجتمع الدولي والإقليمي الراعي للتفاوض غير هذا.
 

بالانتقال إلى ملف الأسرى، كشف العميد طارق عن تلقي عمان، كطرف خارجي، وشخصيات يمنية اعتبارية، وعودا مغلظة بالإفراج على مرحلتين وخلال شهرين عن المعتقلين الأسرى من عائلة الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، من أعلى هرم- مفترض- للسلطة الحوثية دعيّ الاصطفاء والولاية عبدالملك الحوثي، وهو مالم يتم حتى بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات بالنسبة للأسيرين محمد محمد عبدالله صالح وعفاش طارق صالح.
 
وإذا كانت الولاية تعبر عن المبدأ والشق السياسي لدى الحوثيين، فإن قضية الأسرى تمثل الأسلوب والشق الإنساني.
 
ما كشفه العميد طارق في قضية محمد وعفاش، ما هو إلا دالة على الطريقة الحوثية في التعامل مع مختلف الملفات بما فيها الملفين السياسي والإنساني، والتي تقوم على الخداع والكذب والاستخفاف بالتعهدات، على الأرض في الداخل وإن أظهرت بعض الإيجابية أمام الخارج، لإدراكها أنه لن يظل مهتما بالأوضاع اليمنية على طول الخط.
 
عمان، التي تحتفظ بعلاقات جيدة مع الأطراف اليمنية، وبدول التحالف العربي وبإيران كذلك، لم تضع المليشيا اعتبارا لهذه المكانة العمانية، التي أسهمت كذلك وما زالت في رعاية مباحثات تسوية الأزمة اليمنية وتقريب وجهات النظر بين أطرافها الداخليين والخارجيين، فظلت المليشيا تسوف وتماطل وفي نهاية المطاف نفذت جزءً من طلب الوساطة العمانية برعاية الراحل السلطان قابوس بن سعيد، دون أن تغفل استغلال ما نفذته داخليا في إبداء حسن نية كاذبة تجاه قيادة وقواعد المؤتمر الشعبي العريضة في الشارع اليمني، بعد ثورة 2 ديسمبر.
 
وفي الداخل، أيضا، لم يخجل زعيم جماعة يعتقد أن الله اصطفاه وأنه المعبر عن القرآن، من الكذب وإخلاف الوعد ونكث العهد، الذي أعلنه على الملأ وأمام مجموعة من رجالات اليمن، مظهرا استهتاره بأحد أغلظ التعهدات في العرف القبلي اليمني (الوِجِيه).
 
في الواقع، أعادت المليشيا الحوثية، أسلوبها المنهجي، في التنكر للتعهدات باتفاق ستوكهولم، وهو اتفاق سياسي تضمن بنودا إنسانية، على رأسها ملف الأسرى وإطلاق سراحهم بالتبادل على أساس قاعدة الكل مقابل الكل، بمن فيهم محمد وعفاش من أسرة الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.
 
اتفاق ستوكهولم، هو ما تناوله كذلك العميد طارق في مقابلته مع مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، منبها إلى عدم تكراره بأخطائه، فخلاله استفادت مليشيا الحوثي في وقف تحرير الحديدة، وقدمت نفسها بصورة إيجابية أمام المجتمع الدولي، بينما على الأرض لم تنفذ شيئا منه، بما في ذلك البنود ذات العلاقة بملف الأسرى، الإنساني بالدرجة الأولى.
 
استطاع العميد طارق صالح، الذي ظنه البعض قائدا عسكريا فقط، أن يشخص مليشيا الحوثي في مقابلته، بأبعاد كانت غائبة عن كثير حتى من رجال السياسة، ووضع النقاط على الحروف كما يقال، لكنها هذه المرة لم تكن عسكرية وإنما نقاطا سياسية بامتياز.

 

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية