لم تمنع سياسة التجهيل التي اعتمدها النظام الإمامي على مدار تاريخه من بروز التذمر في أوساط الشعب اليمني وتطوره إلى حالات وعي عبرت عن نفسها في انتفاضات قبلية والتفاف حول دول حاربت "الأئمة" إلى أن تعددت وتنوعت مظاهر النقمة الشعبية في العصر الحديث مضيفة للتحركات القبلية تنظيمات وفعاليات سياسية تمارس المعارضة بأشكال مختلفة وبمستويات تتدرج ما بين عرائض نصح واحتجاجات وثورات سلمية ومسلحة توجتها ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، التي يعيش اليمنيون ذكراها الثامنة والخمسين بروح احتفائية عارمة.

 

دعان الثورات

سنة 1911 في منطقة دعان شمال صنعاء وقع "الإمام" يحيى حميد الدين صلحا مع الاحتلال العثماني دون حتى استشارة زعماء قاتلوا معه، وتخلى فيه عن كونه أحد أبرز المعارضين للعثمانيين وحامل لواء تحرر وطني كما اعتقد كثير من اليمنيين، وفضّل أن يكون زعيما طائفيا بحسب مخرجات الصلح، وزاد على ذلك بأن تحالف مع الاحتلال في قمع المناهضين للصلح خصوصا في المناطق الساحلية غرب ما كان يعرف باليمن الشمالي، التي يعيد التاريخ فيها نفسه في إذاقة الحكم الإمامي الحوثي لسكانها ما شربه أسلافهم.

 

خلق " دعان"، بعيدا عن المنافسات على دعوى الإمامة بين الموالين للنظام الطائفي، بذور التحركات اليمنية الوطنية المناوئة للسلطة المتخلفة، واستمرت وإن بصور مجزأة وغير منظمة، مع تفرد الإمام بحكم اليمن إثر رحيل العثمانيين جراء هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى.

 

وشهد البلد في العشرينيات انتفاضات قبلية لا تكاد تهدأ ضد الإمام وسلطاته المطلقة المسنودة بعقيدة الولاية والاصطفاء الإلهي، فظهرت مقاومة مناطق إب وتعز لغزو الإمام في مستهل عهده، ثم محاولة مشائخها الانقلاب بخطة أولى مراحلها قتل واليه علي الوزير، وفي المناطق الساحلية انتفضت القبائل، لا سيما الزرانيق.

 

ورويدا رويدا تكشف الوجه الإمامي في المناطق الجبلية، كما اتضح لآبائهم في عهود إمامية غابرة، رغم طبيعتها المذهبية الزيدية التي زعم يحيى حميد الدين وابنه أحمد تمثيلها بدرجة أساسية، فاندلعت الانتفاضات القبلية هنا وهناك في عموم اليمن، وتصاعدت في مناطق الشمال، خصوصا من قبائل حاشد وإلى حد ما بكيل، في سنوات 51، 55، 57، 59، 1960، بعد أن سبق لها المشاركات المنفردة في انتفاضات البدايات مع المقاطرة ومناطق الزرانيق، والجوف، ومناطق الحجرية والعدين وإب وتعز.

 

تنظيمات وانفجار

ولدّت السياسات الإمامية، إلى جانب الانتفاضات القبلية المسلحة، حركات معارضة منظمة وبواجهات مختلفة اشتغلت بأساليب سلمية حديثة على نحو ما، وظهر هذا النوع على يد طلاب يمنيين درسوا في بلدان عربية أبرزها مصر ولبنان.

 

بدأ الشكل الحديث لمناهضة النظام الإمامي بتأسيس جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحجرية في نادي الثقافة العام 1934، وفي عام 1936 شُكلت الجمعية الأدبية بصنعاء، وجماعة أنصار الأدب في التربة، وعدد آخر في إب بينها منظمة سرية بمسمى "هيئة النضال". وعبرت تلك التكوينات عن آرائها السياسية من خلال الأنشطة الأدبية.

 

من عدن أبصرت المعارضة اليمنية طرحا سياسيا مباشرا من حركات غير متدثرة بغطاءات أدبية أو ثقافية، وأقرب إلى التنظيمات السياسية، فتأسس حزب الأحرار في 1944 ثم مارس نشاطه بعد سنتين بيافطة "الجمعية اليمنية الكبرى"، إلى أن تعزز نشاط الأحرار بخبرات الفضيل الورتلاني وبلورة برنامج سياسي (الميثاق الوطني المقدس) كمقدمة لثورة 1948 التي دشنت باغتيال الإمام يحيى، ثم إجهاضها على يد خليفته أحمد.

 

فشل الفعاليات الشعبية المحدودة، بسبب التجزؤ والافتقار لوسائل التعبئة في مجتمع تسوده الأمية والمعتقدات الخاطئة المغروسة، لم يوقف حالة التذمر الشعبي، وإنما وسعها لتخترق الجيش الذي عبر عن رفضه بشكل حاد في حركة الثلايا 1955.

 

اتسمت كثير من حركات المعارضة بتقوقعها في إطار برامج إصلاحية ترتكز على إمكانية إدخال تعديلات في النظام الإمامي تخفف من صيغته المطلقة، أو إصلاحه بذات المرتكزات الإيديولوجية الدينية والأدوات التي يعتمد عليها النظام في الاحتفاظ بالسلطة، على سبيل المثال، استبدلت حركتا 1948، و1955، إماما بإمام.

 

انعكست هزيمة يحيى حميد الدين أمام السعوديين عام 1934 على إعادة نظره في تكوين جيشه وإدراك أهمية تحديثه تسليحا وتدريبا، فبدأ بابتعاث يمنيين للدراسة العسكرية الحديثة في العراق لتأسيس نواة جيش قادر على حماية نظامه إزاء مخاطر الداخل والخارج على أثر ظهور عوار من بقي من الضباط العثمانيين في تدريب جيشه.

 

لم يخلُ بناء الجيش من محاذير القلق الإمامي من الشعب اليمني فبنى القيادات العسكرية إما من أفراد أسر موالية للنظام أو ممن ينتمون لأصول اجتماعية متواضعة لا خطر من قبائلهم كما كمان يعتقد، وعوضا عن ولاء الجيش للأسرة الحاكمة تلقى عدد من ضباطه وأفراده تأثير توسع قاعدة السخط الشعبي على السياسات الإمامية والوصول معها إلى مرحلة اللا تصالح.

 

مثلت فترة الخمسينيات اختمارا لتنظيم الشعب اليمني لنفسه، بظهور تنظيمات سياسية ونقابية سرية على الساحة، متأثرة بالإيديولوجيات الحديثة من قومية وأممية، وعززت الانتفاضات القبلية بتحركات جماهيرية طفى على سطحها مظاهرات طلابية في تعز، عمت لاحقا عدة مدن يمنية، وهيأت جميعها القاعدة الشعبية لتحرك الجيش في محاولة اغتيال أحمد حميد الدين في الحديدة، ثم تأسيس 40 ضابطا من أصل 400 لتنظيم الضباط الأحرار السري العام 1961، الذي أطلق شرارة ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962.

 

تميزت هذه الثورة عن سابقاتها باعتمادها على أساس أكثر وعيا وسعة من الناحية الشعبية، وتجاوز مساعي إصلاح النظام الإمامي من الداخل إلى منحى جذري باقتلاعه نهائيا إلى نظام جمهوري يرتكز على الرضى الشعبي بدلا من الاصطفاء الإلهي المزعوم.

 

استطاعت جمهورية 26 سبتمبر المضي في إرساء بعض دعائم المرحلة الجديدة، غير أن أفكار التسوية السياسية والمصالحة، والتقصير في المعركة الثقافية لدكّ الأساسات النظرية للفكر الإمامي أبقى مساحات لترتيب الأوراق السياسية والاجتماعية للإمامة كنظام سياسي مكنتها من التحرك في محاولة الانقضاض على جمهورية26 سبتمبر بحوثية 21 سبتمبر، والأخير هو نفس تاريخ مبايعة البدر بن أحمد حميد الدين، ليتأكد البعد التاريخي لطبيعة جولة المعركة الجمهورية الراهنة.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية