"اللهم أسمعني إعلان الجمهورية وأموت" صرخة عبدالمغني قاهر الإمامة
"ﻧﺤﻦ ﺍﻟﻐﺪ ﻭﻫﻢ ﺍلأﻣﺲ"، والأمس هو ماضي الإمامة هذا ما خطه أحد أهم عناصر خلية الضباط الأحرار وكلمة السر في شرارة عبور ثورة 26 سبتمبر إلى الضوء التي قهرت الإمامة وأطاحت بنظام حكم هيمن ظلام كهنوته عقودا من الزمن.
ويكفي أن نشير لاسم علي عبد المغني ليشق صيته الآفاق، كرمح يصيب صدر إمامة الكهنوت في مقتل، حطم جدار الفقر كفتى يتيم همه النصر وحلمه صرخة "اللهم أسمعني إعلان الجمهورية وأموت".
وتحول الضابط علي عبد المغني بعد 58 عاما من ثورة 26 سبتمبر المجيدة إلى ملهم للمناضلين ورمز للجندية في خط الدفاع عن الجمهورية من الإماميين الجدد "الحوثيين" الأكثر وحشية وظلامية.
يتحدر عبد المغني من قرية نائية تدعى "بيت الرداعي" في مديرية السدة/ محافظة أب لأسرة فقيرة، ولادته عام 1937، يغمر السعادة والده محمد حسين، فيسميه "علي"، يتوفى الأب بعد 4 أعوام، ليكبر هذا الطفل يتيما في البلد القابع تحت وطأة الإمامة.
في ربيعه السابع، ختم علي عبدالمغني القرآن في أول إنجاز للشبل المحارب، الذي شق قبل العاشرة من عمره الطريق إلى صنعاء، وهناك يجمعه القدر بقائد ثورة 1948، الذي أطاح بالإمام الأب، المناضل جمال جميل العراقي، الذي يجلسه إلى جواره ويسائله عن "فيم تكون السعادة؟" فيصعق بالرد: "تكون في الحرية".
لاحقا ستفشل ثورة العراقي وسيكمل هذا الطفل مشوار التحرير كقائد لأم الثورات ويخضب بدمه أرضا جديدة لكل اليمنيين.
بدأ عبدالغني مشواره التعلمي من مدرسة الأيتام في صنعاء ثم المدرسة المتوسطة والثانوية وفي عام 1958 التحق بالكلية الحربية في الدفعة الثانية التي ستحمل أسمه لاحقا، ليس لمرتبته الأولى فحسب؛ بل لدوره المحوري في هندسة عهد جديد للبلاد.
تعرف عبدالمغني بعد تخرجه من الحربية على كوكبة من الضباط من خريجي الكليات الحربية والطيران والشرطة، أبرزهم محمد مطهر زيد، ناجي الأشول، حمود بيدر، عبد الله عبد السلام صبرة وغيرهم الكثير وذلك عند التحاقه بمدرسة الأسلحة.
- المهمة المستحيلة
قبل خوضه المهمة المستحيلة، عاد الضابط الشاب ذو الـ22 ربيعا متقدا إلى كنف أمه بعد رحلة علم وجندية مليئة بالإثارة، كان متشوقا كثيرا إلى صوت أمه وهي تسمعه ظلم وجبروت الإمامة المتمثلة ببيت حميد الدين وهو بذلك يقوي عمق إيمانه لينطلق في المغامرة الصعبة، المحطة الفاصلة في تاريخ بلد يعرف لاحقا بفضل دمه "الجمهورية اليمنية".
أقام عبد المغني في كنف أمه ليومين وكان حريصا ألا يكسر قلب والدته فأخبرها أنه مقبل على عمل كبير هو وزملاؤه، وأوصاها بالدعوات "والله يا أمي ما تسمعي عن ولدك إلاَّ ما يسر خاطرك"، وعن مخاوف الأم من الإمامة التي وصفتها أن أفعالها لا ترضي الله ولا رسوله، قال "وأما بيت حميد الدين فوالله ما يذبحوني ولن أموت إلاَّ موتة الأبطال".
ينطلق البطل في أول جولة مكوكية، عدت همزة الوصل بين الضباط الأحرار، فمن اللواء الأخضر "إب" إلى القاهرة "تعز" حيث تقيم خلية الضباط الأحرار وسط سرِّية وتكتم شديدين ومنها يتجه صوب عروس البحر الأحمر "الحديدة" ومن الغرب إلى أقصى الجنوب، حيث خزانة بحر العرب "عدن" ثم يعود إلى "صنعاء" معقل حكم إمامة بيت حميد الدين.
- الضابط الثائر
شهد عبدالغني ثورة 1955 الذي قادها المقدم أحمد يحيى الثلايا ضد الإمام أحمد في تعز وكذا تمرد مشايخ حاشد عام 1959، فراقب بصمت مسار تلك الحركات التي انتهت بنهاية مأساوية لأبطالها، فقرر خوض مسار مختلف قائم على السرية واستغلال الفرص للارتباط بالجماهير الشعبية.
فلم تكن شهادات المشير عبدالله السلال أول رئيس يمني والرئيس السابق الزعيم علي عبدالله صالح للبطل علي عبد المغني أنه المهندس والمخطط والمنفذ الفعلي لثورة 26 سبتمبر مجرد أوصاف في صفحات التاريخ، فالشاب الأسمر كان أﻟﻤﻊ ﺯﻣﻼﺋﻪ ﺫﻛﺎءً ﻭعقلاً.
ظهر ذلك، في 56، عندما أشعل أول مظاهرة طلابية في شوارع صنعاء لتحطيم حاجز الخوف الذي يكبل عقول الجماهير فوجه رسائل حاسمة للإمامة وللعدوان الثلاثي على مصر في وقت واحد، وقد اعتقل إثر ذلك لكن مظاهرة أخرى خرجت تطالب بالإفراج عنه.
تعلم عبدالمغني من كل الحركات أبجديات التخطيط داخل الكيان الواحد، فخاض جهودا شاقة حتى ولد تنظيم الضباط الأحرار في ديسمبر 1961 وتولى مسؤولية إحدى خلاياه وتضم عشرة أعضاء.
ومن خلاله حشد العلماء والمثقفين والمشايخ وكل الأحرار داخل اليمن وخارجها للإعداد للثورة، حتى أن القائم بأعمال السفارة المصرية حينئذ الأستاذ محمد عبد الواحد وصفه في تقرير رفعه للرئيس جمال عبد الناصر، إن علي عبد المغني هو زعيم تنظيم الضباط الأحرار اليمنيين، وهو المعني بالتخاطب والرد على أي استفسارات تطلبها القيادة المصرية من تنظيم الضباط الأحرار.
ومهد هذا لأول لقاء خاطف له منتصف عام 1962، بالزعيم جمال عبد الناصر على متن باخرة مصرية في البحر الأحمر بشرم الشيخ عقب وصوله على ظهر الباخرة مأرب التي أبحرت من ميناء المخا، وحصل هناك على تعهدات من عبد الناصر بدعم ونصرة الثورة اليمنية.
بعد عودته من مصر نظم مجددا انتفاضة طلابية، هذه المرة شملت مدن القوة والثقل "صنعاء وتعز والحديدة" لقرع جرس إنذار يوقظ سبات اليمنيين لحماية ثورتهم حتى تنفيذ مهمة الإطاحة بالإمام أحمد قبل أسبوع من انفجار الثورة.
وقد تحول عندئذ إلى خلية نحل يلتقي الضباط والوجهاء والقبائل في خلية صنعاء حتى أنه استطاع ليلة تفجير الثورة كسب مشايخ اليمن الذين قدموا إلى صنعاء لمبايعة الإمام محمد البدر وأقنعهم بالمشاركة في الثورة إلى جانب الضباط.
كان يوم الـ26 من سبتمبر عام 1962، إشعاع الفجر يطل على لسان محمد الفسيل من على أثير إذاعة صنعاء أول بيان "باسم الله وباسم الشعب تعلن قيادة الجيش سقوط الملكية في اليمن وقيام الجمهورية العربية اليمنية" تهاوى عرش الإمامة حتى أطل بعد 52 عاما في ثوب جديد 21 سبتمبر 2014 يرتدي البزة الحوثية.
- وداع أبكى جمال عبد الناصر
بعد أسبوع من قيام الثورة والنظام الجمهوري كلف علي عبد الغني من قبل "مجلس القيادة" الذي كان عضوا فيه على رأس حملة عسكرية إلى منطقة "حريب" في مأرب لمواجهة القوات الملكية، وهناك خاض معركته الأخيرة وترجل عن صهوة جواده في وداع هز أرض سبأ ووصل مداه إلى أم الدنيا مصر عندما بكى الزعيم جمال عبدالناصر لخسران أحد القادة العظام.
ذكر الكاتب والمفكر السياسي الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه "سنوات الغليان" أن الرئيس جمال عبدالناصر لم يعرف البكاء في حياته إلاّ مرتين: عند انفصال سورية ومصر والثانية عند علمه بخبر استشهاد علي عبد المغني.
ويقتبس الكاتب والمفكر اليمني الدكتور عبدالعزيز المقالح، أقوالا خالدة لعبدالمغني "ﺍﻟﻌﹹﻤﹿﺮ ﻻ ﻳﻘﺎﺱ ﺑﺎﻟﺴﻨﻴﻦ ﻭإﻧﻤﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﺼﻨﻌﻪ (الإنسان) ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ" فالحياة ﻟﻴﺴﺖ ﺑﻄﻮﻟﻬﺎ ﻭﻋﺮﺿﻬﺎ، ﻭﻻ ﻫﻲ ﺑﺎﻟﺴﻨﻮﺍﺕ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ، ﺑﻞ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻠﺤﻈﺎﺕ ﺍﻟﻤﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻟﺠﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﻌﻈﻴﻢ.
ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻦ جملة ﻛﻼﻣﻪ ﻭﻣﺎ ﻛﺘﺒﻪ ايضا: "ﻧﺤﻦ ﺍﻟﻐﺪ ﻭﻫﻢ ﺍلأﻣﺲ، ﻭﺍلأﻣﺲ ﻣﻀﻰ ﻭﺍﻟﻐﺪ ﻗﺎﺩﻡ"، في أقصر إشارة للإمامة وﻳﺮﻣﺰ ﺑﺎلأﻣﺲ إﻟﻰ ﺍﻟﻘﻮﻯ ﺍﻟﻤﺘﺨﻠﻔﺔ ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﺩية ﻟﻠﺜﻮﺭﺓ، ﻭﻳﺮﻣﺰ ﺑﺎﻟﻐﺪ إلى ﺷﺒﺎﺏ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﻭﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻳﺔ.
ونقل عنه رفاقه الثوار أنه كان يردد دائما" اللهم أسمعني إعلان الجمهورية وأموت".