سياسة الابتزاز الإيرانية في "ملعب التخصيب"
يمكن القول إن النظام الإيراني استطاع اللعب بشكل جيد وخطير في الوقت نفسه على حافة الهاوية النووية، عندما أعلن في شهر مايو (أيار) 2019، وبعد مرور سنة كاملة على قرار إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات الخانقة على إيران، البدء بتطبيق خطوات تقليص التزاماته ببعض بنود الاتفاق النووي (26 و36)، واللجوء إلى سياسة الابتزاز، ليس للجانب الأميركي، بل للدول الغربية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي)، التي وحسب الموقف المعلن لطهران أنها (أي الدول الغربية) لم تقم بأي خطوة عملية وحقيقية من أجل تخفيف الآثار السلبية للعقوبات الأميركية، وفي وضع آلية التعامل المالي المقترحة من جانبهم (انستكس) موضع التنفيذ، مقابل التزام إيران بعدم الخروج من الاتفاق النووي والسقوف التي حددها فيما يتعلق بالنشاطات النووية الإيرانية وآليات التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفي إزاء المعركة المفتوحة بين طهران وواشنطن والتي لم تقتصر على الاتفاق النووي، وشملت منذ البداية جميع الملفات التي تشكل مصادر قلق لواشنطن وجميع حلفائها، تحديداً في الشرق الأوسط، فإن معركة أخرى ومن نوع آخر احتدمت بين طهران وعواصم الترويكا الأوروبية، قامت على استغلال المخاوف الغربية من انهيار هذا الاتفاق وانقطاع قنوات التواصل فيما يتعلق بهواجس هذه الدول حول أزمات الشرق الأوسط وما تشكله من مصالح حيوية لها تسعى للحفاظ عليها والتوصل إلى حلول لحالات التوتر وعدم الاستقرار التي تسيطر على هذه المنطقة وتهدد بتفجيرها.
هواجس أوروبية
لعبة شد الحبال بين طهران والعواصم الغربية على حافة الاتفاق النووي، ظهرت بشكل أكثر وضوحاً بعد الرسالة التي وجهتها هذه الدول قبل نحو شهرين إلى مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتعلق بقلق هذه الدول من عدم التزام إيران بتعهداتها فيما يتعلق بتسهيل عمليات المفتشين الدوليين، مما أسهم في تحويل هذه الهواجس إلى الوكالة الدولية التي اتهمت إيران بعدم التعاون في التفتيش، خصوصاً في موقعين تدور الشكوك حول استخدامهما أنشطة نووية، أحدهما بالقرب من العاصمة طهران، والآخر بالقرب من مدينة أصفهان وسط البلاد.
هذه الهواجس التي اقتربت من حالة الاتهام للنظام الإيراني بعدم التعاون مع الوكالة الدولية في موضوع التفتيش، أعاد إلى الذاكرة الإيرانية أزمة الجار العراقي في زمن رئيسه السابق صدام حسين مع المفتشين الدوليين وما أدت إليه من تداعيات انتهت بقرار غزوه وإسقاطه أميركياً عام 2003، خصوصاً وأن طهران سعت إلى السير على شفير التعاون وعدمه في تقليص التزاماتها ببنود الاتفاق النووي، مما فرض عليها الخضوع لعملية الابتزاز الغربية وتقديم تنازلات في جميع الملفات الداخلية النووية أو الإقليمية الأخرى، وارتفع مستوى الابتزاز الغربي مع اقتراب موعد جلسة مجلس الأمن الدولي وإمكانية تمرير مسودة مشروع القرار الأميركي بتمديد حظر الأسلحة على إيران وإسقاط ما جاء في الاتفاق النووي الذي يرفع هذا الحظر بدءاً من 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2020.
"تفعيل الزناد"
ويمكن التوقف في هذا السياق عند الدور الفرنسي الأبرز في الوصول إلى تفاهمات مع النظام الإيراني حول آليات التعاون والتنازلات المطلوبة من إيران من أجل كبح الاندفاعة الأميركية التي لم تتوقف عند فشلها في تمرير قرار تمديد الحظر، وانتقلت للعمل على تفعيل آلية فض النزاعات في الاتفاق النووي (سناب باك – تفعيل الزناد) التي تسمح بعودة كل العقوبات الدولية التي كانت فاعلة قبل قرار مجلس الأمن 2231، فنرى نوعاً من التناغم غير المسبوق بين باريس وطهران حول الملف اللبناني الذي سمح بحصول تعاون غير مسبوق بين حزب الله اللبناني في إطار المساعي التي بذلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته إلى لبنان في الخامس من شهر أغسطس (آب) 2020 بعد الانفجار الكارثي الذي وقع في مرفأ بيروت قبل يوم واحد. فضلاً عن تسهيل وتعاون في إنجاح زيارة ماكرون إلى العاصمة العراقية بغداد التي وصلها قادماً من بيروت في الثاني من هذا الشهر سبتمبر (أيلول) 2020، وما فيها من تأسيس لتفاهمات حول تعاون ممكن بين باريس وبغداد لمواجهة التهديدات التركية في الإقليم والعراق، وهذا ما يفسره مشاركة رئيس إقليم كردستان العراق نجيرفان بارزاني في لقاءات بغداد، وهي المرة الأولى التي تتحول فيها العاصمة العراقية لمحطة وحيدة لأي ضيف دولي غربي من دون المرور أولاً أو لاحقاً على عاصمة الإقليم أربيل.
بالإضافة إلى هذه المؤشرات، فإن موقف الترويكا الأوروبية من المساعي الأميركية لخنق النظام الإيراني سمح لطهران بتقديم تنازلات للوكالة الدولية في زيارة رئيسها رفايل غروسي إلى إيران وفتح الطريق أمام تفتيش المنشآت التي تدور حولها الشكوك الأوروبية، في مقابل تقرير متوازن للوكالة حول أنشطة إيران ومدى التزامها بسقوف الاتفاق النووي حول أنشطتها.
تقرير الوكالة الدولية، ومن حيث لا ترغب طهران، كشف أن جميع خطوات تقليص التعهدات التي أقدمت عليها في لعبة "الستين يوماً بين الخطوة والخطوة" ما زالت تحت سقف الاتفاق النووي، وأن الإعلان الإيراني عن عودة تفعيل مفاعل أراك للماء الثقيل لم تكن سوى خطوة إعلامية، بحيث إن التقرير أشار بوضوح إلى أن مخزون إيران من الماء الثقيل الذي يستخدم في إنتاج البولوتونيوم ما زال تحت المستوى الذي حدده الاتفاق بنحو 130 كيلو. في المقابل أعرب التقرير عن قلق لا يرقى إلى مستوى الخطر من ارتفاع مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بدرجة 3.67 إلى مستويات تصل إلى 2015 طناً أي ما يعادل نحو 10 أضعاف السقف الذي سمح به الاتفاق وحدده بنحو 202.8 كيلو أو 300 كيلو من اليورانيوم وغاز هغزافلوريد اليورانيوم.
ارتفاع المخزون الإيراني من اليورانيوم المخصب، وإن كان قادراً على أن يكون خطراً نووياً كامناً، إلا أنه بحاجة إلى خطوات أساسية للتحول إلى مسار عسكري، منها أن تعمد إيران للاستخدام أجهزة طرد مركزي متقدمة تختلف عن الأجهزة التي حددها الاتفاق بالجيل الأول IR1، وأن توسع قاعدة متواليات هذه الأجهزة والانتقال أولاً إلى مستوى تخصيب 20 في المئة. وإن كان هذا المسار قابلاً للتنفيذ ويحتاج إلى نحو خمسة أشهر للانتقال إلى المستوى العسكري، إلا أن طهران تبدي حرصاً على عدم الوصول إليه خوفاً من خسارة كل أوراقها وتحولها إلى هدف عسكري مباشر لواشنطن وغيرها، وبالتالي ما زالت تحاول اللعب تحت سقف الاتفاق وتوظيف ذلك في حرب إعلامية داخلية ودولية. وهي لعبة أجبرت عليها بسبب الإجراءات والعقوبات الأميركية التي وضعت عقوبات على عملية تصدير فائض إنتاج اليورانيوم الإيراني الذي تنتجه طهران مما أجبرها على رفع مستوى المخزون لصعوبة تصديره وفق آليات الاتفاق النووي، فضلاً عن عدم قدرتها على إنتاج البولوتونيوم في أراك بسبب تعطيله من جهة، والتزامها بالاتفاق الموقع مع موسكو حول نقل اليورانيوم المنضب (الذي يشكل عصب عملية إنتاج البولوتونيوم) المستخدم في تشغيل مفاعل بوشهر لإنتاج الطاقة الكهربائية إلى الأراضي الروسية بعد كل عملية تبديل لوقود هذا المفاعل.
قد يتحول ما سعت إيران لتوظيفه كورقة ضغط على المجتمع الدولي في تعليق عملية تصدير فائض اليورانيوم المخصب ورفع مستوى تخزينه على الأراضي الإيرانية إلى مصدر إرباك وأزمة لطهران، ويجعل من هذه العملية عبئاً اقتصادياً وأمنياً وسياسياً في حال لم تفلح في توظيفه في خطوات عملية على صعيد العلاقة مع الوكالة الدولية والترويكا الأوروبية وتخفيف الحصار المفروض عليها.
المصدر: الاندبندنت