لقد قلنا قبل إن لجنة الحوار المكلفة بإجراء حوار وطني عام لوضع مشروع الميثاق الوطني، كانت مهمتها بعد ذلك التهيئة أو التحضير لعقد مؤتمر شعبي عام، مهمته مناقشة المشروع وإقراره لكي يغدو وثيقة وطنية تتمتع بشرعية شعبية، وقوة إلزامية تجاه القوى السياسية، فضلا عن كونها ملزمة معنويا أو أدبيا. 
 
وبناء على صلاحياتها- ووفقا لمضمون الرسالة التي تلقتها من رئيس الجمهورية- قدمت لجنة الحوار الوطني مقترحا في 31 أغسطس 1981، إلى الرئيس بأن يحدد عدد أعضاء المؤتمر الشعبي العام بألف عضو،  فأصدر الرئيس القرار رقم 18 لسنة 1981 بتاريخ 19 أكتوبر 1981 تحدد بموجبه عدد أعضاء المؤتمر الشعبي العام، حيث نص بأن المؤتمر الشعبي العام لإقرار مشروع الميثاق الوطني يتكون من ألف مندوب، يتم انتخاب سبعمائة منهم (نسبة 70 في المائة)  من قبل المواطنين، عن طريق الاقتراع الحر المباشر، ويحدد عدد ممثلي كل منطقة حسب العدد السكاني، ووفقا لنتائج الإحصاء السكاني لعام 1981، أما الثلاثمائة عضو المتبقين(نسبة 30 في المائة) فيعينون  بقرار من رئيس الجمهورية.. أما آلية انتخاب السبعمائة، فقد تم تحديدها بالقرار الجمهوري رقم 128 لسنة 1981، الذي قضى بتكليف اللجنة العليا للانتخابات واللجان الفرعية لانتخابات هيئات التعاون للموسم الانتخابي التعاوني الثالث بالإشراف على انتخاب ممثلي المواطنين في المؤتمر الشعبي العام.. بدأت هذه الانتخابات في ديسمبر1981 على مرحلتين، الأولى على مستوى العزلة، والثانية على مستوى الناحية (المديرية).. وبعد انتخاب السبعمائة، أصدر رئيس الجمهورية يوم 12 أغسطس 1982 قرارين (القرارات رقما 3 و4)، قضى الأول منهما بتعيين 309 أعضاء  في المؤتمر الشعبي، وقضى الثاني بدعوة جميع الأعضاء المنتخبين والمعيين للمشاركة في المؤتمر الشعبي العام الذي ستبدأ أعماله يوم 24 أغسطس.
 

وفي هذا المؤتمر الذي التأم في الموعد المذكور، عرض على المشاركين مشروع الميثاق الوطني، واستمارة التعديل النهائي لمشروع الميثاق الوطني، وكانت هذه الاستمارة تتضمن سؤالا وخيارين، وتمت صياغته على النحو التالي: هل توافق على صيغة مشروع الميثاق الوطني المسلم إليك نسخة منه مع هذه الاستمارة، وهي الصيغة التي توصلت إليها لجنة الحوار الوطني من خلال الاستبيان العام والمؤتمرات الشعبية؟.. إذا كان الجواب بالموافقة أجب بنعم.. وفي حالة وجود أي ملاحظات تفضل بكتابتها فيما يلي موضحاً الأسباب".. وتركت في الاستمارة مساحة فارغة ليسجل فيها المندوب أو العضو الملاحظات أو الآراء التي يراها.. ومذيلة باسمه وتوقيعه.. ثم تمت إعادة صياغة الميثاق الوطني صياغة أخيرة ونهائية، على ضوء تلك الملاحظات، ووضع للتصويت، فصوت المؤتمرون لصالحه، وبذلك أصبح ميثاقا وطنيا.

ولعله من المفيد هنا، تقديم صورة عامة عن الميثاق الوطني.. فبين جلدتيه هناك مقدمة عامة طويلة، وخاتمة قصيرة للغاية، وبين المقدمة والخاتمة كتبت خمسة أبواب الأول عنوانه: الإسلام عقيدة وشريعة.. والباب الثاني: الإنسان والوطن.. والباب الثالث: الإدارة، العدل الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، التربية والثقافة.. والباب الرابع: الدفاع والأمن.. والباب الخامس: السياسة الخارجية.. والمضمون العام يمكن إيجازه في العبارات التالية: شرح بعض مظاهر الحضارة اليمنية في التاريخ القديم والتأكيد على أن ما أنجزه اليمنيون في الماضي كان يتم في ظلال حكم محلي مع وجود دولة مركزية في الغالب، وأن منجزات تلك الحضارة التي لا تزال بعض آثارها باقية إلى اليوم، تمت من خلال العمل الجماعي، وأن اليمنيين اضطلعوا بدور كبير في التاريخ الإسلامي، وأن الأوضاع في اليمن كانت تتأثر بما يحدث في محيطها سلبا أو إيجابا، فحيثما كانت الخلافة الإسلامية عادلة انعكس ذلك على اليمن والعكس صحيح، وفي القرن العشرين كان نضال الشعب اليمني وتضحياته - منذ حركات الثلاثينيات وصولا إلى ثورة 26 سبتمبر 192- تستهدف الاستبداد والظلم، ومن أجل الحرية والعدالة، وأن هناك حقائق خمس مستخلصة من تجارب اليمنيين عبر العصور وهي أن العقيدة الإسلامية مصدر مركباتهم الروحية، ومصدر تشريعاتهم، وأن كل ما أنجزوه في الماضي تم في ظل دولة عادلة تدعم المبادرات الجماعية، وتم في ظل استقرار اجتماعي وحريات عامة.. وأن شريعة الإسلام نهائية وصحيحة ويجب أن تستمد منها جميع التشريعات فيما يتعلق بالحقوق والواجبات، وأن الولاء الوطني ملزم للفرد تجاه وطنه، ويتحقق هذا الولاء من خلال المحافظة على السيادة والاستقلال الوطنيين، والالتزام بثورة 26 سبتمبر، والثقة بأن الوحدة الوطنية أساس الوحدة اليمنية، والوحدة اليمنية أساس الوحدة العربية، ويقتضي هذا الولاء الوطني وجود مساواة وشورى واختيار الحكام ومساءلتهم وفقا للشريعة الإسلامية، وأن تربية الفرد مقدمة لتربية الأسرة، وتربية الأسرة ضرورة لوجود المجتمع الصالح بكل مؤسساته، والتنمية الاقتصادية لابد أن تحقق عدالة اجتماعية بموجب الشريعة وشروطها، ولكي يتحقق الاستقرار الأمني  ويحمى الوطن، لا بد من جيش وطني وقوات أمنية، ولكي تكون العلاقات مع الخارج جيدة ومفيدة لا بد من إتباع سياسة خارجية متوازنة، وفي الوقت نفسه ثابتة! وننبه أن هذا موجز المكونات الثقافية للميثاق، وقد يكون هذا الإيجاز مخلا، ولمن أراد التفاصيل قراءة نص الميثاق الوطني.
 
على أن للكاتب مآخذ كثيرة على هذا الميثاق وسنفصلها في مكان آخر، وعند مناسبة أخرى، ومن هذه المآخذ ما يتعلق برداءة الصياغة وتركيب الجمل، وعبارات فيها مجازفة، ومعلومات تاريخية مغلوطة، كما أن الذين صاغوا الميثاق سموا أشياء بغير مسمياتها، وضمنوه تلفيقات حول بعض القضايا، وتحريضا ضد الفرد لحساب الجماعة، وتقييد الحريات العامة وحقوق الإنسان بقيود الشريعة الإسلامية وغير ذلك من العيوب، الأمر الذي يظهر تأثيرا قويا لثقافة الإخوان المسلمين في هذا الميثاق، كما أن هذا الميثاق لم يتغير منذ إقراره قبل نحو 38 سنة، وهي فترة طويلة جرت في أنهارها مياه جديدة، وحان الوقت لتعديله أو تطويره.
 
حسنا.. بعد ثلاث سنوات من الحوار والتفكير والمهام الإجرائية تم التوصل إلى الميثاق الوطني، لكن من سينزله إلى الفضاء الاجتماعي العام؟ أو قل من هي الجهة التي سيتعين عليها وضعه موضع التطبيق؟ هذا ما سوف نناقشه في المقال التالي، والذي سيكون الأخير.

 

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية