صالح و17 يوليو 78م .. الزعيم الذي أرسى مداميك الدولة
جاء صالح السلطة في 17 يوليو 1978م وكانت اليمن حينئذٍ تتقاذفها أمواج الصراعات الداخلية ذات الولاءات الإقليمية والدولية، فالمعسكر الغربي كان قد فرغ للتو في ذلك الزمن من تفقيس مخططه لفرض هيمنته على مفردات القرار السياسي وفرض ثنائيته في الهيمنة والخضوع باغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي الذي بدا أكثر ميلاً إلى المعسكر الشرقي، وشعر المعسكر الشرقي بطعنة في خاصرته كانت جد مؤلمة، فردَّ باغتيال أحمد حسين الغشمي الذي خلف سلفه الحمدي على كرسي الحكم في القصر الجمهوري بصنعاء وأحدث ذلك الصراع المتقارب في زمنه حالة من الهلع والخوف، وحالة من التنافر في النسيج الاجتماعي الوطني، كما أنه أحدث فرزاً وتمايزاً وتحالفات اجتماعية وسياسية، وبنى كتلاً عسكرية متصارعة، وكتلاً حزبية ذات ارتباطات وولاءات خارجية، ولم تكن اليمن بمنأى عن الحرب الباردة بين الشرق والغرب بل كانت مسرحاً لمواجهات بين المعسكرين، كل ذلك المناخ السياسي المتصارع والمحموم والمشتعل أواره لم يكن يرتكز على بنية دولة، فالثورة التي اندلعت عام 1962م لم تكن إلا امتداداً للماضي، إذ لم تتمكن من البناء والتأسيس للدولة الوطنية الحديثة، بسبب الحرب التي نشبت بين الجمهوريين والملكيين واستمرت من عام 1962م إلى 1970م وكان الموقف العالمي مما كان يحدث في اليمن زمنئذٍ يتماوج في الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، لذلك حين وضعت السعودية حدا لراية الحرب في اليمن ومالت إلى اتفاقية مارس 1970م جنح العالم إلى تمويل الصراع بين شطري الوطن اليمني، فقد كان الصراع بين شطري الوطن هو العامل الذي يقف حائلاً دون بناء الدولة الوطنية.
بعد وصول حركة 13 يونيو 74م إلى سدة الحكم حاولت استعادة الدولة التي يتنازعها الإقليم والعالم من خلال تفكيك منظومة الكتل التاريخية والجماعات والأحزاب ورؤساء العشائر المعوقة لبناء دولة المواطنين كما تجلى ذلك في توجهات حركة (13 يونيو) وخطاباتها وأدبياتها ، ومثل ذلك كان غائظاً موجعاً لبعض الكتل وكان حادث (11أكتوبر 77م) قد قضى على حلم اليمنيين باغتيال الرئيس إبراهيم محمد الحمدي.
وأمام بشاعة الصورة الكائنة يومذاك، جاء صالح في 17 يوليو 78م ليرقص على "رؤوس الثعابين" محققاً توافقاً سياسياً تحت مظلة المؤتمر الشعبي العام في أغسطس 82م، ثم اتجه إلى تنمية البعد الاقتصادي، إذ تم إعلان عام 84م عاما للزراعة، وشجع القطاع الخاص على إنشاء المصانع ، فتناثرت وتعددت،فتناثرت على الجغرافيا الممتدة بين الحديدة وتعز، وتعددت في منتجها، وفي ذلك الزمن نشطت صناعة الإسمنت التي كانت تلبي حاجة السكان وحركة العمران التي زاد طلبها.
وفي البعد السياسي الداخلي عمل على تطوير فكرة هيئات التعاون الأهلي بصلاحيات أكبر في صيغة المجالس المحلية، وتم التأسيس للسلطة التشريعية - مجلس الشورى- بانتخابات مباشرة من المواطنين، وانطلق مشروع تقنين الشريعة الإسلامية، وحدث في زمنه إصدار منظومة تشريعية ناظمة لم تكن موجودة من قبل لعدة عوامل أشرنا بشكل موجز لها في السياق.
وفي السياسة الخارجية أقام علاقات حسنة مع دول العالم.
وفي البعد الثقافي شهدت الثقافة نشاطاً ملحوظاً حيث تم تحرير المخطوطات وطباعة بعضها، ونشطت الفرق الفنية والمسرحية ونشطت حركة الفكر والأدب، وسافر الأدباء والفنانون والكتّاب والمفكرون إلى خارج اليمن للتعريف بالبلد الذي خرج للتو من أقبية الماضي ليعلن عن وجوده، فكانت الأسابيع الثقافية في الدول العربية والعالمية بمثابة الاحتفال أو الإعلان بميلاد الدولة اليمنية الحديثة.
تلك هي أبرز ملامح ما قبل عام1990م ولن أتحدث عن مرحلة ما بعد 90م ولكني سوف أوجز الحديث عن صالح الإنسان والمواطن الذي رأيته بعد تسليمه السلطة في 22 فبراير 2012م في صنعاء.
بعد حادث جمعة رجب في عام 2011م كان بإمكان صالح أن يحرق صنعاء بمن فيها، ولكنه ظهر متسامحاً وهو يغرق في دمائه في حين احتفل خصومه وخاصة الإسلاميين وذبحوا الجَزُور وأعلنوا يوم تفجيرهم جامع الرئاسة الذي أصيب فيه صالح عيداً ثورياً كما زعموا، وكان الفرق بين الحالين يظهر تفوقاً أخلاقياً لصالح، وحاول صالح تسليم السلطة حقناً للدماء، في حين كان شعار خصومه «كلما زدنا شهيداً كلما اقترب النصر»، ولذلك أمعنوا بقتل الناس في الاقتحامات وفي المظاهرات التي حملت المسميات: (جمعة الكرامة، حي الإذاعة، جولة كنتاكي، حي النهضة ) وغيرها التي دلّت الوقائع والأدلة أنها من صنع خصومه ولم يكن لنظام صالح يد في إراقة تلك الدماء، لقد انحنى صالح للعاصفة حتى تمر ولكنه عاد أكثر هيمنةً على مفردات واقعها فالذين هتفوا برحيله لحقهم غضب الرحيل فلم يبقَ منهم أحد في الديار اليمنية، والذين حشدوا الناس ضد صالح في 2011م بالكذب والتضليل لم يطل بهم التضليل حتى عرف الناس الحقيقة والتفوا حول صالح فزادت شعبيته وترمدوا حتى كأنهم أعجاز نخل خاوية، وحين ذهب خصومه إلى أحضان أعداء اليمن رفض كل المغريات والتحم بتراب اليمن، وكنا نجده يتجول في شوارع صنعاء ويجول في أرجاء اليمن ويتجول في المولات والأسواق محتمياً بسياج محبة شعبه، وتلك هي الزعامات الحقيقية وقلّ من يتصف بها هذا الزمن عدا صالح الرجل الأسطورة.
رحم الله الشهيد الزعيم علي عبدالله صالح الذي بنى دولة حقيقية ولم يفرط في تراب اليمن بل استشهد وهو يدافع عنه.