"تسعيركم الشلغم أثلج صدورنا"
قبل قرابة ثلثي قرن، في خريف العام 1952، كانت انتفاضة شعبية تغطي معظم مدن العراق الرئيسية، شبيهة بالتي تحدث الآن، سميت وقتها بـ"انتفاضة تشرين". فالقوى المجتمعية والمدنية العراقية كانت قد ضاقت ذرعا بسياسات وسلوكيات نخبة حكم البلاد، من ساسة وأمراء، بالذات من الوصي على العرش الأمير عبد الإله، ورؤساء الوزراء المتعاقبين.
كانت ثماني تشكيلات وزارية قد تعاقبت على حكم البلاد خلال أربع سنوات سبقت تلك الانتفاضة، منذ "أحداث الوثبة" التي جرت في أوائل العام 1948، والتي كانت بدورها انتفاضة شعبية.
ما بين الانتفاضتين، جربت القواعد الاجتماعية العراقية، بالذات منهم المدنيون والطلبة وأبناء الطبقات الوسطى، جربوا مختلف أنواع الزعامات والقوى السياسية من خلال تلك الحكومات المتعاقبة، التي ظهرت في المحصلة وكأنها متطابقة جوهريا فيما بينها، ولا تستطيع، ولا ترغب، بأن تغير شيئا جوهريا من الواقع العراقي.
كانت مطالب انتفاضة تشرين وقتئذ تتطابق إلى حد بعيد مع مطالب المنتفضين العراقيين راهنا. إذ كانوا يطالبون بمزيد من الحريات العامة والديمقراطية المباشرة ومحاسبة الطبقة الحاكمة التي تضخمت ثرواتها بشكل استثنائي طوال عقدين كاملين، كما يشرح المؤرخ حنا بطاطو تفصيليا في كتابه الشهير حول العراق.
إلى جانب ذلك، فإن المنتفضين طالبوا بإلغاء المعاهدة البريطانية العراقية، ومواجهة النفوذ الإقليمي في العراق، الذي كان يتم عبر تلك القوى السياسية، أو من خلال الوصي على العرش.
حينما لم تتمكن القوى السياسية من ضبط/تحطيم تلك الانتفاضة، أتى الوصي على العرش عبد الإله بالشخصية العسكرية نور الدين محمود، ذو الأصول الكردية، ليؤلف حكومة عسكرية، تمكنت من قمع الانتفاضة عبر فرض الأحكام العرفية وإنزال الجيش للمدن وإغلاق المدارس والكليات الجامعية.
كانت تلك الحكومة العسكرية، التي استمرت لقرابة الشهرين فحسب، تحاول أن توحي بأنها أتت استجابة لمطالب المنتفضين، من خلال بعض القرارات والسلوكيات الشكلية تماما؛ لتغطي ما كانت تقوم به فعليا من سياسات لتحطيم الانتفاضة. وقتئذ كانت الآلاف من الرسائل التهكمية تنهال على الحكومة العسكرية، كان أشهرها، والتي بقيت حاضرة في الذاكرة الجمعية العراقية لعقود، حتى أنها تحولت إلى أمثولة في الأحاديث الشعبية العراقية: "تسعيركم الشلغم أثلج صدورنا".
كان الحكام العراقيون وقتها يسعون لأن يخرجوا العراق من حركة التاريخ. ففي وقت كان الانقلاب العسكري المصري قد نجح قبل شهور قليلة في الإطاحة بالطبقة البرجوازية، وكانت الأجواء السورية تتجه لتفكيك سلطة أديب الشيشكلي العسكرية، وتعيش فيه تركيا السنوات الأولى للتعددية الديمقراطية مع حكم عدنان مندريس، فإن قوى الحكم العراقية كانت تسعى لأن تسكت الانتفاضة العراقية عبر حكومة عسكرية وبعض التغيرات الشكلية، مثلما تحاول أن تفعل الآن تماما.
يعيش العراق اليوم مقاربة اجتماعية وتوازنا سياسيا شبيها بالذي كان قبل ثلثي قرن، وفي كل تفصيل وآلية تفاعل. فالعراقيون المنتفضون اليوم، إنما يسعون لتحطيم ثلاثة أسس متراكبة في حياتهم العامة: هي شكل علاقة بلادهم مع القوى الإقليمية، وسطوة وأدوات نفوذ نخبهم السياسية، وأخيرا مستويات الفساد واستيلاء النافذين على الخير العام في البلاد.
مقابل ذلك، فإن نخبة الحكم وداعميهم يستميتون في طرح مسارات ومصائر بديلة لهذه الانتفاضة، للإيحاء بأنها إنما تتقصد مرامي وأهداف أخرى تماما عن هذه. أو بقول تهكمي قريب مما فعله العراقيون قبل ثلثي قرن: يريدون إقناع العراقيين بأن "تسعيرة الشلغم هو هدف انتفاضتهم".
فالمنتفضون العراقيون، بأغلبيتهم الشيعية، يتذوقون كل يوم آثار ارتباط وتابعية بلادهم للاستراتيجية الإيرانية في المنطقة. يلمسون كيف أن بيئتهم الاجتماعية تحولت إلى وكر للجماعات والميليشيات المسلحة بسبب تلك التبعية الاستراتيجية.
إلى جانب ذلك، فإن ذلك الارتباط إنما يكبح كافة أشكال التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي قد تطرأ على تلك البيئة، إذ يشاهدون كيف أن إقليم كردستان الذي يعيش خارج تلك الهيمنة، إنما يشهد تحولات مغايرة تماما، أكثر رحابة وأقل تشنجا وأوسع أفقا.
مقابل ذلك، فإن قوى الحكم المركزية، بالذات التيارين الشيعيين المركزيين، يسعيان لأن تعتبر الانتفاضة نفسها أداة لمواجهة الولايات المتحدة وغير من القوى الدولية والإقليمية، ضمن العراق وفي المنطقة، تكيفا مع مشروع إيران الاستراتيجي في ذلك الاتجاه. إذ لا تتوقف قوى الهيمنة العراقية، وبكل شكل وأداة، لأن تعتبر أن تلك المواجهة إنما هي "الوطنية العراقية"، وإذا رفضت الانتفاضة العراقية التجاوب لها، سيعني بأنها صارت في خدمة أجندات خارجية، وبالتالي شرعنة محقها.
على الدفة الأخرى، فإن الانتفاضة العراقية التي ترسم طريقا واضحا لمواجهة الزعامات السياسية الحاكمة، سواء الدينية أو السياسية، أو التي تجمع بين المقامين، سلوكياتها وتوجهاتها وعالمها القيمي وهيمنتها الرمزية والمادية على حيوات المنتفضين، تواجه رهانا صعبا في ذلك الاتجاه.
فهذه الزعامات تدفع نحو مقاضاة قيمية للانتفاضة، تحذرها من تجاوز أو مس ما يعتبرونه "مقدسات" الشعب العراقي، بالذات منها المرجعيات الدينية والسياسية، التي تحولها في كل لحظة إلى رموز مقدسة في كل تفصيل. كذلك فإنها تحذر من أشكال الاختلاط والتحرر الاجتماعي التي قد تمارسه قوى الانتفاضة في مجالها الخاص، وطبعا عبر الرهاب الدائم من حضور النساء وأدوارهن في الانتفاضة، وبالتالي مستقبل الحياة العامة في العراق.
بعبارة أخرى، إجبار المنتفضين على تحوير مسألتهم الرئيسية من قضية سياسية إلى مسألة قيمية، وبالتالي إفراغ الانتفاضة من مضمونها العملي وما قد ينفرز عنه من تغيير لموازين القوى، بين القواعد الاجتماعية المدنية وطبقاتهم الوسطى والمتعلمة وبين زعامات الهيمنة الدينية والسياسية.
أخيرا، فإن انتفاضة العراقيين هؤلاء، هي ديناميكية حيوية لمواجهة أشكال الفساد وسوء الإدارة والنهب العام في المجالات والبيئة المحلية والحياة اليومية. فهذه القواعد تتلمس كل في وقت تدهور أشكال وتفاصيل عيشها، بسبب تلك الديناميكيات البنيوية من الفساد والنهب العام.
لكن قوى الهيمنة تسعى لأن يحيا المنتفضون ويناضلوا في سبيل "القضايا الأسطورية". فمرة يحذرون المنتفضين من "المارد السُني"، الذي قد ينتعش ويستعيد مكانته في العراق والمنطقة، فيما لو تمكنت الانتفاضة من إعادة القوى الشيعية لأن تكون قوى سياسية مشغولة البال بالهم والشواغل المحلية، على حساب مهامها وانهماكها بالهيمنة على باقي البيئات العراقية. ومرة أخرى يحذرون المنتفضين من إمكانية عودة إقليم كردستان للسعي للاستقلال، فيما لو نجحت الانتفاضة في تفكيك أدوات السطوة والنهب العام التي بيد الأحزاب الشيعية.
على أن المؤشر الأكثر سوداوية في انتفاضة العراقيين اليوم، هو تعاظم حظوظ الحلول الشبيهة بالتي نُسجت قبل ثلثي قرن لانتفاضة تشرين، وإن بأثمان أكبر وآلام أكثر وجعا.
فإن كانت الظروف والمناخات وطبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع وقتئذ، كانت تفسح المجال أمام حكومة عسكرية قصيرة الأمد، تستعيد فيه السلطة شيئا من التوازن مع المجتمع، فإن الدلائل تقول اليوم بأن التوازن صار مستحيلا، وأن المسألة هي "تكسير للعظام" ليس إلا، وأن ذلك الخيار هو استراتيجية الحاكمين الوحيدة، وفي وقت لن يرض فيه المنتفضون بأن تكون مسألتهم مجرد ضبط لـ"تسعيرة الشلغم".
* نقلا عن موقع الحرة