بين التصعيد الإيراني والفتور الأوروبي في التعامل معها، تشق انتفاضة الشعبين اللبناني والعراقي طريقها الصعبة والمكلفة نحو بلورة وقائع سياسية واجتماعية مختلفة عن تلك التي فرضتها التسويات الإقليمية والدولية على حساب مصالحهما، وجعلتهما يخضعان لوصاية إيرانية بمباركة غربية.
 
انتفض الشعبان العراقي واللبناني، فاعتبرت طهران أن النيران وصلت حدائقها الخلفية؛ وأن هذا الأمر سيؤثر على موقع واقعها الجيوسياسي، ضمن ما باتت تُسميه بفضائها الاستراتيجي الممتد من طهران إلى جنوب لبنان برا، ومن مضيق هرمز إلى باب المندب بحرا، والذي غلفته بغطاء جيوعقائدي برر لها مشروع نفوذها الجيوستراتيجي خارج حدودها الوطنية باعتباره جزءا من عقيدة النظام الثورية.
 
وسبق لطهران أن عبرت مرارا بوضوح عن حدود هذا الفضاء، وهو ما برز على لسان ممثل مرشد الجمهورية في خرسان علم الهدى الذي قال منذ أسابيع في خطبة الجمعة إن "إيران اليوم ليس لديها القيود الجغرافية التي كانت في الماضي، اليوم إيران هي قوات "الحشد الشعبي" في العراق، و"حزب الله" في لبنان، و"أنصار الله" (الحوثيين) في اليمن، و"الجبهة الوطنية" بسوريا (النظام السوري)، وحركتي "الجهاد" و"حماس" الفلسطينيتين، كل هؤلاء أصبحوا يمثلون إيران، ولذلك إيران لم تعد نحن فقط".
 
وبذلك، يمكن وضع كلام علم الهدى في سياق موقف طهران المتشدد من حركة الاحتجاجات في لبنان والعراق، والذي جاء مباشرة على لسان رأس هرم السلطة المرشد علي خامنئي الذي وصف التظاهرات في لبنان والعراق بـ"أعمال الشغب"، إضافة إلى موقف سكرتير مجلس الأمن القومي الأدميرال علي شمخاني الذي اعتبر أن ما يحدث في العراق ولبنان "أشبه بفتنة داعش"، وهو اتهام جديد يضاف إلى قائمة الاتهامات التي وجهت للمتظاهرين ووصفتهم بالعملاء لواشنطن وتل أبيب ولأنظمة "الرجعية العربية" وتُحركهم سفارات أجنبية.
 
عمليا، قبل انفجار الأوضاع في لبنان والعراق كانت إيران تبني مخطط حماية نفوذها واستقراره بناء لمعطيات تراجع الضغوط العسكرية والسياسية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، نتيجة القرار الغربي تجنب المواجهة المباشرة معها، إضافة إلى اتكالها على وكلائها في شن ضربات استراتيجية حققت لها أفضلية عسكرية في الشرق الأوسط.
 
ويشير تقرير للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ببريطانيا "IISS" نشرته صحيفة الغاردين إلى أن إيران "تقاتل وتربح الحروب التي تقاتلها وسط الناس، لكن ليست الحروب التي تندلع بين الدول، إيران تتجنب أي صراع مماثل بين الدول، لأنها تعلم تفوقها عليها، وبدلا من ذلك، تسعى إيران إلى الحرب غير المتكافئة من خلال الاعتماد على شركاء من غير الدول والحكومات".
 
وفي ظل نشوة انتصار إيران الإقليمي، قلب الشارعان العراقي واللبناني الطاولة على الجميع وجعلا من طهران، التي كانت تضع مسدس أذرعها المسلحة على طاولة المفاوضات مع المجتمع الدولي، الطرف الأضعف في هذه المفاوضات، بعدما خرج استقرار لبنان والعراق من قائمة المكاسب الإيرانية وتحولا إلى أداة ضغط ضدها في أية تسويات مقبلة، بعدما تراجعت قدرتها على التحكم الكامل في هذين البلدين.
 
هذا التطور وانعكاساته على طهران وموقعها، ساعهم في رفع حدة تعاطيها المتوتر والعنيف مع الأزمة خصوصا في العراق، الذي يمثل خسارة التحكم حتى النسبي في إدارته ضربة قاسية للسطوة الإقليمية الإيرانية، بعدما كان العراق منطلق للاحتكاك الإيراني الخشن مع الدول الإقليمية والمجتمع الدولي عبر أذرعها السياسية والمليشياوية التي تسيطر على السلطة منذ 2003 وتشكل قوة عسكرية موازية لقوة المؤسسات الرسمية.
 
وفي الوقت عينه، أصبح "حزب الله" في لبنان في مواجهة حركة احتجاجات مطلبية تعمل على بلورة شخصيتها السياسية بشكل يفرض على "حزب الله" قراءة مختلفة للمشهد اللبناني ما بعد 17 أكتوبر، ولا يمكن معالجتها أو الالتفاف عليها بنفس الخطاب والأدوات السابقة خصوصا أن الطبقة السياسية التي تحتمي بـ"حزب الله"، ويحتمي هو بها، وتسعى للحفاظ على امتيازاتها تواجه جيلا جديدا قد تجاوزها.
 
وعليه، فإن طهران، التي وضعت نفسها في مواجهة انتفاضة الشعبين، هي في موقف الدفاع عن النفس، حيث لا يمكن لنظامها العقائدي تقبل فكرة انتقال الحرائق الإقليمية إلى حديقتها الخلفية باعتبار أنها تمارس انتدابا كاملا على العراق الذي يمثل شرعية نفوذها العقائدي، ولبنان الذي تتعامل معه كأنه درة التاج الإمبراطوري.
 
تتحكم إيران بمصير العراق ولبنان السياسي، ولكن لم تعد قادرة على التحكم بمصير شعبيهما، والأخطر أن هذه الانتفاضة في بعديها العقائدي والجغرافي من الممكن أن تمتد حرائقها من الحدائق الخلفية إلى حرائق داخل البيت.
 
* نقلا عن موقع "قناة الحرة"

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية