شرقاً من الخوخة، وعند سهل مفتوح يهم فيه مئات المزارعين منذ الصباح الباكر، وفي طريق رملي مُعبّد، كان محرر "وكالة 2 ديسمبر" يشق طريقه إلى منتصف الضاحية لتوثيق إحدى القصص الإنسانية التي تشهد على واحدة من أبشع جرائم المليشيات الكهنوتية الحوثية التي مارستها أبان سيطرتها على المنطقة بحق المدنيين قبل تحريرها وعديد من مناطق الساحل الغربي ودحر تلك المليشيات الإرهابية منها.

 

كان عددٌ من الصبية يلوحون بأيديهم، فيما تهرع طفلتان نحو سيارتنا حينما توقفنا بمحاذات إحدى المزارع المُخضرّة. بين هؤلاء الصبية المبتهجين خمسة أطفال من أبناء الحاجة فاطمة أمير قاسم بطين، الأم التي تكتوي بالأحزان لفقدانها زوجها الذي قتله الحوثيون قبل ثلاثة أعوام، وهي هدفنا في هذه القصة.

 

سأل محرر الوكالة فاطمة وهو يسير برفقتها نحو منزلها المكون من ثلاثة أكواخ مصنوعة من القش بلا أبواب أو حاميات تقيها الرمال والرياح، أين هو زوجك؟!، تُجيب "زوجي قتلوه ثلاثة متحوثين قبل ثلاث سنوات، كانوا يشتوا يأخذوا حقه الأرض وهو رفض فقتلوه".

 

وعن تفاصيل الجريمة هذه تستدرك الحاجة فاطمة والعبرات تخنقها "جاء 20 من الحوثيين إلى بيتنا ومعهم سيارة مصفحة، نزل واحد منهم وزوجي بالعشة وقتلوه أطلق عليه رصاص كثير ومشيوا".

 

لم يتمالك نجلها الصغير أبو بكر -المُكنى بـ "الصديق"- نفسه واستذكر من قصة موت أبيه بعضاً من المشاهد، يقول أبو بكر الذي كان يومها في عامه الثالث "كان أبي يقول اربطوا لي أربطوا لي، والدم يسيل منه، بعدين قال أشهد أن لا إله إلا الله ومات". أخذ بيد المحرر وأدخله إلى خيمة قش مهجورة وأشار بيده "هنا كان أبي ميت، وأنا كنت ابكي هنا".

 

كل أعمال الحاجة فاطمة تقتصر اليوم على زراعة الأرض "إصلاح سواقي المياه، وتربية الأهواش (البهائم)، وجمع الأعلاف". حد وصفها، أما أطفالها الذكور فيساعدونها في رعي الماشية والتعليف وتنظيف حضائر الأبقار.

 

أخذتنا فاطمة بعد ذلك إلى مكان خلف المنزل، تكسوه عشرات الأشجار وهو عبارة عن حضيرة مفتوحة تجمع فيه خمس أبقار تملك واحدة منها، أما الأخرى فتربيها للناس الذين يأتمنونها بها ويمنحونها الديزل لتشغيل المضخة التي تروي بها المزرعة، كما أنهم يعطونها أرباع (ربح معين يتم تحصيله مقابل كل مكسب من تربية الأبقار).

قبل ست سنين فقدت فاطمة البالغة من العمر 45 عام، واحدة من عينيها نتيجة إصابتها بالسرطان، أسعفت إلى صنعاء وقرر الأطباء استئصال عينها اليمنى لتجاوز الخطر، ورغم أنها تعيش مصيبة مزدوجة بخسارتها زوجها وإحدى عينيها، إلا أنها تكافح في ظروف شاقة من أجل الحياة وحتى لا ترى أبناءها يتسولون في الشوارع ويهدر الآخرين كرامتهم. تضيف "بخلي عيالي يدرسوا لو أبيع لهم من لحمي، وبربيهم حتى يصبحوا رجال يشقوا على أنفسهم".

 

أبو بكر، ونجم الدين، وناصر، ورجاء، وأنوار، وهاجر، وختام، وعائشة، هم أطفالها لم يتجاوز أكبرهم 12عاما، حيث يبقى الأبناء معها، أما البنات فيخرجن كل صباح إلى المزارع البعيدة لمساعدة المزارعين وكسب بعض المحاصيل مجازفات بمخاطر مخلفات الألغام التي نشرتها مليشيا الموت والإرهاب الحوثية -قبل دحرها- في كل شبر من السهل التهامي لاسيما المأهولة بالسكان والطرقات والمزارع انتقاما من أهاليها، وقد لاحظنا في منزلها كميات من البصل تقول إن بناتها جمعنهُ من مساعدتهن للمزارعين.

 

وفي معزل عن أنظار العالم تقول الحاجة المنهكة "أني دائما في البيت، عيالي يرعوا البهائم، كان زوجي يكري على السيكل ويدي أبناءه.. قتلوه ثلاثة حوثيين.. قتلوا زوجي لأنه رفض تسليم أرضه". وتستدرك عند سؤالها عن حالتها المعيشية "الحمد لله ربنا يحول، ما فيش من يمدني، كل شي من مهرتي، نكافح ونضارب ولله الحمد".

انتظرنا حتى حلول الظهيرة ننتظر وصول باقي بناتها اللاتي لا يزلن في المزارع، لم يأتين فقررنا المغادرة، لكن قصة هذه الأم المسنة لم تغادر الذاكرة لما بها من مأساة ما تزال عالقة على ذهن المحرر الذي قابلها.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية