يزخر تاريخ إيران المعاصر بأمثلة تؤكد دور المؤسسة الدينية الشيعية في الشأن العام – بصرف النظر عن التقييمات السلبية أو الإيجابية لهذا الدور – من ذلك إعلان رجال دين، الجهاد ضد السلطات القاجارية إبان مخاضات الثورة الدستورية في العقد الأول من القرن العشرين، وما أسفرت عنه من صياغة الدستور في العام 1907م، ورغم تأثر معديه بالدستورين الفرنسي والبلجيكي، إلا أنه أشار إلى الطبيعة المذهبية الدينية للدولة الفارسية بنصه على أن الإسلام على المذهب الجعفري الاثني عشري ديانة الدولة الرسمية.

 

وبقيت الاتجاهات المذهبية وسلطات رجال الدين لا سيما في المجال التشريعي مقننة دستورياً، إلى أن تحول جوهر الدستور الإيراني إلى ترجمة قانونية لأفكار الخميني في محاضراته عن "الحكومة الإسلامية"، عقب انتصار الثورة في 1979م.

 

حتى مع النزعات العلمانية لرضا بهلوي، وإعجابه بكمال أتاتورك، ظلت المؤسسة الدينية قوية وعادت للانتعاش أكثر في عهد ولده الشاه محمد رضا، وكان لها دور حاسم في نجاح انقلاب مصدق أوائل الخمسينيات من خلال دعم رجال الدين وعلى رأسهم آية الله كاشاني، ثم الإسهام في إفشال مصدق واتهامه بالميول الشيوعية.

 

لقد كانت الشيوعية أغلب القرن العشرين محوراً للسياسات الدولية.

 

فبعد نجاح الثورة البلشفية في روسيا العام 1917م، والاعتماد على الدولة السوفيتية في نشر ودعم الأحزاب الشيوعية في البلدان الأخرى، حققت الماركسية جاذبية لكثير من الأفراد في مختلف أنحاء العالم، شاملة دولاً غربية وكل دول العالم الثالث سيما وقد قدمت نفسها مناهضة للاستعمار والإمبريالية، وتعززت هذه الجاذبية بدور الشيوعيين في مقاومة الاحتلال الغازي للعديد من الدول الأوروبية، ونضالهم ضد الاستعمار في آسيا وأفريقيا، وانقسم العالم عقب الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين، شرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي يدين بالماركسية الشيوعية، وغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد الرأسمالية محركاً لسياساتها، وبينهما حاولت دول ما عرف بالعالم الثالث تشكيل تكتل لا يدين بالولاء أو التبعية لأحد المعسكرين، دول عدم الانحياز، غير أنه من الناحية العملية وجدت الدول، المحايدة نظرياً، نفسها ميالة إلى أحد المعسكرين، وإن تفاوتت في درجة الانخراط بينهما، ويبدو الأمر طبيعياً بالنسبة لهذه الدول نظراً لتخلفها واحتياجها في دعم تنميتها إلى أحد المعسكرين أو كليهما.

 

نتيجة للانقسام الاشتراكي، الرأسمالي وقع العالم تحت طائلة الحرب الباردة.

 

إيران، أو فارس كما كانت تسمى قبل تغيير الشاه رضا بهلوي لاسم الدولة، عانت من تنافس روسي بريطاني، ارتأى سياسيوها بعد ثورة 1906م استجلاب توازن مصالح داخل الأراضي الإيرانية فقرروا استقدام خبراء أمريكيين في العام 1911م، ما فتح باب النفوذ التدريجي للولايات المتحدة في إيران.

 

وبعد نجاح انقلاب رضا بهلوي سنة 1921م، زاد التقارب مع الولايات المتحدة، رغم محاولته إيجاد قدر من توازن القوى الكبرى في بلاده وإدخال ألمانيا في لعبة النفوذ في إيران، لكن المسألة حسمت بعد خلع رضا بهلوي عام 1941م أثناء الحرب العالمية الثانية بإخراج ألمانيا، ثم السوفيت وبريطانيا، إلى حد ما، لصالح الولايات المتحدة الأمريكية التي خرجت من الحرب كأقوى دولة في العالم مقابل حالة الانهاك للدول المتحاربة الأخرى بما فيها المنتصرة، الاتحاد السوفيتي، وبريطانيا، وفرنسا، وسعي الأمريكيين إلى مواجهة التمدد الشيوعي بالحلول كوريث سياسي للاستعمارين البريطاني والفرنسي في آسيا وأفريقيا.

 

كان لإيران أسباب موضوعية للميلان باتجاه الولايات المتحدة، بعضها يتصل بالتجارب السلبية مع الروس، والطموح الروسي القديم في الوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، والخليج العربي، وهو الطموح الذي يمر عبر البوابة التركية، التي كانت عصية إبان العهد العثماني، وكارثية بعد انضمامها لدول حلف الأطلسي، ما يعني التزاماً غربياً بالحماية ضد الروس، ومن ثم وعى الإيرانيون أن بلادهم خيار أقل كلفة للروس. أسباب أخرى داخلية ترجع إلى قوة المؤسسة الدينية في إيران، بالرغم من مساعي رضا بهلوي، وأقل منه ولده محمد رضا لإضعافها، فقد أضاف رجال الدين عاملاً ثقافياً لرفض الميل نحو الروس يتمثل بشيوعيتهم "الملحدة" وتصاعد نشاط الشيوعيين في إيران لاسيما حزب تودة.

 

في الضفة الموازية اعتبر الأمريكيون إيران تركة بريطانية هي أولى بوراثتها من الروس، إلى جانب كونها واقعة في تماس مباشر مع المصالح والأمن الروسيين، غير ما أضافه النفط من أهمية في السياسات الدولية على إيران كدولة نفطية كبيرة وبوابة على أضخم إنتاج واحتياطي عالمي في الخليج العربي، وبحر قزوين.

 

من غير الصائب، اعتبار العلاقات الإيرانية الأمريكية إيجابية على طول الخط في عهد الأسرة البهلوية 1921 – 1979م، على العكس مرت العلاقة بأزمات، بينها ما عُرف بأزمة البريد الأمريكي، ومشكلة البعثات التبشيرية، ومصادرة المؤسسات التعليمية الأمريكية في إيران، وتبادل إغلاق السفارات، في عهد رضا بهلوي إلى الانتهاء بخلعه بتوافق أمريكي، بريطاني، سوفيتي، وتعيين ابنه محمد شاها بداية الأربعينيات، وتصادف اشتعال الحرب الباردة إبان ما كان حاكماً لإيران.

 

في عهد الشاه محمد رضا، انفصلت أذربيجان الإيرانية أربع سنوات - قبل استعادتها عام 1946- بقيادة الحركة الشيوعية الأذرية وبحماية قوات سوفيتية، ونتيجة لذلك استعان الشاه بالولايات المتحدة الأمريكية لإخراج السوفييت، ومن جانبها استجابت وتعهدت بحماية عرش الشاه مقابل استخدام إيران في صراعها مع الاتحاد السوفيتي، وبالفعل حصل تعاون عضوي بين الجانبين الأمريكي والإيراني، عبر عن نفسه إلى درجة ما في مساندة المخابرات الأمريكية في إعادة الشاه إلى العرش عقب فشل حركة محمد مصدق أوائل الخمسينيات، لكن في واقع الحال لم يكن تعهد الأمريكيين بحماية الشاه هو السبب الحقيقي لتدخلها لصالحه، فقد تخلت عنه نهاية السبعينيات، إنما ميول مصدق واعتماده إلى حد كبير على الشيوعيين، وتزايد دورهم، وخطواته في تأميم النفط دفع بالتدخل الأمريكي الاستخباراتي، وتحريك الجيش الإيراني لإنهاء حركة مصدق، الذي تخلت المؤسسة الدينية عنه بزعامة آية الله كيشاني.

 

ومرة أخرى تلتقي المصالح الأمريكية مع المؤسسة الدينية الإيرانية مع إعلان الشاه عن ثورته البيضاء في العام 1963م، بما اشتملت عليه من تهديد كبار الملاك الزراعيين بنزع ملكياتهم، وإنذار رجال الدين بسحب الأراضي التي بحوزتهم، ومنح المرأة حق الانتخاب، ماجعل المؤسسة الدينية بثقلها الجماهيري - النابع من طبيعة البنية الفكرية والتنظيمية والتاريخية للمذهب الشيعي الجعفري في إيران - تكثف معارضتها للشاه، واتهمت الشاه بمخالفة الشريعة الإسلامية، وبين ليلة وضحاها برز اسم الخميني في 1964م بجرأة غير المعهودة من المؤسسة الدينية في توجيه النقد مباشرة إلى الشاه، ومن وقتها أصبح الخميني شخصية شعبية، رغم أن المؤسسة الدينية كانت تضم شخصيات دينية أعلى منه حسب التراتب الهرمي الشيعي الجعفري، حيث كان حينها آية الله، فيما هناك ثلاثة يحملون لقب أية الله العظمى.

 

وتصاعدت معارضة الشاه بتشكيل تنظيمات مسلحة، كفدائيي خلق الماركسية، ومجاهدي خلق، من تلاميذ منظر الثورة الأول علي شريعتي.

 

بالنسبة للأمريكيين، كان لموقفهم من أحداث السبعينيات التي انتهت بنجاح الثورة ضد الشاه مكونان رئيسيان، أضيفت إليهما أحداث أفغانستان، المجاورة لإيران.

 

تضمنت الثورة البيضاء للشاه اتجاهاً قومياً يعيد الاعتبار لصالح الدولة الإيرانية بما يخرجها على المدى الطويل عن الهيمنة الأمريكية، والبقاء تحت وضعية التبعية، عبر عنه باحتفالية كبيرة حضرها كثير من زعماء العالم، إحياء لذكرى تأسيس الإمبراطورية الفارسية قبل ألفين وخمسمائة سنة.

 

حاول الشاه بناء نهضة إيرانية في مختلف الجوانب، تعليمية وصحية واقتصادية وعسكرية، ولم يكن مسعى إدخال إيران في النادي النووي بتأسيسه وشروعه في البرنامج النووي الإيراني، إلا أحد بنود المشروعات الطموحة للشاه، إضافة إلى برنامج صاروخي، وتنمية تعليمية وخدمية ثورية. واشتملت المحاولة النهضوية إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية النفطية مع الغرب بقيادته سياسات رفع سعر النفط في السوق العالمية، وتأكيده أنه لم يعد مقبولاً أن يأخذ الغرب برميل البترول بخمسة عشر دولاراً ليعيدوه إلى الدول المنتجة سلعاً صناعية تفوق قيمتها المئة دولار، وفي هذا الاتجاه خطط لبناء إحدى أهم المنشآت البيتروكيميائية في العالم للاستفادة القصوى من ميزة الثروة النفطية لبلاده، ومن خلال خطوة اقتصادية وسياسية مهمة اتفق مع السوفييت على إنشاء أكبر مصنع للحديد الصلب في آسيا.

 

الاتجاه الجديد للشاه كان يعبر عن طموح غير مسموح به أمريكيا، ويمثل انحرافا عن الخط الأمريكي، ومحاولة لتجاوز السقوف الأمريكية المحددة لمختلف دول العالم، وبالذات الواقعة في دائرة مصالح السياسات الأمريكية الحيوية، وإيران واحدة من أهمها في ظل الحرب الباردة لوقوعها جغرافياً بين أعلى مخزوني نفط في العالم، الخليج العربي وقزوين، وملامستها لحدود حيوية مع الاتحاد السوفيتي، ووقوعها تقليدياً ضمن مجموعة من الدول المحسوبة على النفوذ الغربي في الشرق الأوسط.

 

المكون الثاني في تغيير السياسات الأمريكية حيال نظام شاه إيران مرتبط بالحرب الباردة.

 

فقد تميزت الشيوعية الماركسية ببنية نظرية متماسكة استندت في التطبيق على أحزاب شيوعية عالية التنظيم حكمت أو لعبت دوراً مؤثراً في أغلب دول العالم، بالخصوص دول العالم الثالث، التي تشكل بمجموعها دول الموارد والثروات غير المستخدمة، وبالتالي الحساسة في الصراع الغربي الشرقي، واستطاعت أجهزة الدعاية الشيوعية أن تقدم صورة عن الاتحاد السوفيتي، والشيوعية كمناهض فعال ل "الإمبريالية" والاستعمار، الغربي بطبيعته وبوعي الشعوب، رغم أن الدولة الروسية ووريثتها السوفيتية تشكلت جراء حلقات استعمارية شملت نصف أوروبا وكثير من مساحة آسيا.

 

على العكس بدت الرأسمالية غير متماسكة أيديولوجيا، ونظاماً لدول نهبت واستعمرت شعوباً ضعيفة.

 

ساهمت نقاط الضعف الغربية في تقليص قدراتها على اختراق شعوب الدول الثالثية، ولجأت كبديل متوفر إلى سياسة المساعدات للأنظمة السياسية الموالية، ومحاولة تطويق الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية عموماً بأحلاف اقتصادية وسياسية وعسكرية، ونجحت في ذلك عبر حلف الناتو بشكل رئيسي، لكنها فشلت في استكمال حائط الأحلاف، بإخفاق الحليف البريطاني في تكوين ما عرف بحلف بغداد الذي ضم دولاً بينها إيران وباكستان الواقعتان في الجنوب الغربي للاتحاد السوفيتي.

 

بالإضافة إلى ذلك أخفقت المنظومة الغربية في تكوين أذرع شعبية فاعلة في كثير من الدول كما فعل الاتحاد السوفيتي من خلال الأحزاب الشيوعية، ما جعل الاعتماد الغربي على الحكام الموالين غير كاف.

 

لأسباب مازالت بحاجة لدراسة جادة، وإن كنا نستطيع تلمسها في غير بقعة، طفت على السطح السياسي تيارات دينية فاعلة ونشيطة وشعبية، خلال سبعينيات القرن الماضي، ليس في العالمين العربي والإسلامي فحسب، بل حتى في الولايات المتحدة الأمريكية وانتعاش التيار الصهيوني المسيحي. ربما في الوطن العربي كان لانتكاسة المشروع القومي في الستينيات، بهزيمته 1967م، وانقسام حزب البعث، أثر كبير في توجه الشارع نحو الحركات الدينية، زاد فيه دور المال النفطي في تمويل الحركات الدينية لتوظيفها سياسياً.

 

هذه الموجة السياسية الدينية قوت في إيران من شوكة المؤسسة الدينية في مواجهة الشاه، ساعدها في ذلك انخفاض الدعم الشعبي للشاه جراء التضخم الناجم عن التوسع في الإنفاق لتمويل الخطط التنموية الطموحة، مع أن المواطن الإيراني كان وقتها الأفضل من الناحية المعيشية بين مواطني بقية دول الشرق الأوسط، ماعدا مواطني الكيان الإسرائيلي.

 

التقطت الولايات المتحدة الأمريكية النزعات الشعبية السياسية الدينية كفرصة بديلة للتطويق السياسي والعسكري للاتحاد السوفيتي، تقوم على الاستفادة مما يمكن أن تشكله الحركات الدينية من جدار عقائدي أمام العقيدة الماركسية الشيوعية ذات الميول اللادينية المتطرفة، أو الإلحاد، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط الحساسة بموقعها الجغرافي، وطاقتها النفطية الهائلة على حلبة الحرب الباردة.

 

وتصاعدت أهمية الموجة الدينية في إيران للمصالح الأمريكية، نتيجة الاحتراق الشعبي للشاه، وتدني جدوى إعادته إلى دائرة التبعية، مثلما حصل مؤخراً للرئيسين المصري والتونسي، مبارك وبن علي.

 

الأهم، الخشية الأمريكية من سيطرة الأحزاب الشيوعية في إيران على مقاليد الحكم، كما حدث في التغلغل الشيوعي السريع في القرار السياسي أثناء حركة مصدق بالخمسينيات، خصوصاً وقد رافق التحرك الثوري الحاسم والواسع في إيران عامي 77_1978م سيطرة الشيوعيين على الحكم في دولة أفغانستان المجاورة، وما يعنيه من اقتراب الاتحاد السوفيتي من المياه الدافئة في الخليج، والتماس المباشر مع منبع النفط الأول في العالم فيما لو سقطت إيران بيد الشيوعيين بعد سقوط جارتها.

 

سلسلة حلقات تنشرها  وكالة 2 ديسمبرمن ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة الثامنة..

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية