رغم حرص الإسلام على تأكيد البعد العالمي لرسالته – وهي حقيقة – إلا أن المجتمعات غير العربية، ربطت الإسلام بالعرب إلى درجة التماهي، فاعتبر الإسلام ديناً عربياً، وهذا وجه آخر لحقيقة الإسلام تشير إليه عروبة القرآن، وخطابه بما يتلاءم مع النطاق المفاهيمي للعقلية العربية بصورة رئيسية، إضافة إلى أن حملته الأوائل هم العرب.

 

ولهذا لم يكن التعاطي الفارسي مع الإسلام مفصولاً تماماً عن بُعده العربي، وبوعي أو بدون وعي انسحبت النظرة الاستعلائية الفارسية للعرب على الإسلام نفسه، تجلت في مقاومة متعددة الأشكال للمد الإسلامي، مابين انتفاضات مستمرة لمدن فارسية على حكم المسلمين في عصر الخلفاء الأربعة الأوائل، ومابين مقاومة ثقافية رفضت اللغة العربية، لغة حياة بعكس ما حصل من انتشار العربية مع الإسلام في العراق والشام وشمال أفريقيا.

 

يبد أن المقاومة الأهم، بعد العجز عن المقاومة العسكرية، وإلى حد ما السياسية، عبرت عن نفسها باختراقات في جدار الثقافة الإسلامية الناشئة، لإيجاد مساحة تأثير في تشكيل هذه الثقافة، حققت بعض النجاح، لكنه ليس بذات قدر نجاح اليونان عقب وقوعهم تحت السيطرة الرومانية سياسياً، بإعادة تموضعهم داخل الثقافة الرومانية وهيمنتهم التقريبية عليها. وربما استفادت النخب الفارسية من التجربة اليونانية مع الرومان.

 

كان التأثير الفارسي المرغوب، إرضاء النزعة الاستعلائية، وضرب البُعد العربي للإسلام من الداخل، ولهذا نلحظ أن معظم حركات التمرد الفكري والثقافي بل والعسكري والسياسي انطلقت من مناطق واقعة تاريخياً وجغرافياً في نطاق الثقافة الفارسية  فكانت حركات الخوارج، والقرامطة، والزندقة، والشعوبية، والباطنية، وغيرها، إلى جانب العودة الثقافية والسياسية القوية في العصر العباسي، الذي يشكل في قرونه الثلاثة الأولى نهضة التدوين الإسلامي، وتشكيل الفكر والثقافة الإسلاميين، ولأن العراق  -وبشكل مباشر أو غير مباشر – كانت الفاعل الثقافي الأول تلك الفترة، ولأنها كانت حضارياً واقعة في مركز الهيمنة الساسانية لما يزيد على أربعة قرون، فقد تمكنت الثقافة الفارسية من وضع بصمات مهمة في المنتوجات الكتابية لقرون التدوين الإسلامية الأولى. وإذا شئنا ضرب أمثلة فلن نعدم الكثير جداً من تلك التسللات الفارسية، نكتفي منها بما نراه في كتابات تاريخية وأدبية رغم أنها محسوبة مذهبياً على التيار "السني" تتضمن إشارات تنتقص من أفراد صحبوا النبي وأسهموا في حركة الفتوحات الإسلامية، وكذلك نظرات تظهر أهل الشام بصورة نمطية يكسوها الغباء، فقط لأنهم كانوا يشكلون القاعدة السياسية والشعبية للدولة الأموية المندثرة التي تبنت حركة تعريب، واعتمدت على العرب حراساً رئيسيين للدولة الإسلامية الناشئة وقتهم.

 

لكن المهمة الأخطر للفعل الفارسي، تمثلت في العمل على خلق نسخة فارسية للإسلام تتمكن من استمرار مرتكزات الثقافة الفارسية، وتشبع عقدة التفوق وغريزتها المنتقصة للعرب، وتعيد توجيه الصراع – الحاكم لسياسات العصور الماضية – من مستواه الخارجي إلى المستوى الداخلي الذي ينعكس بالضرورة في إضعاف المجتمع المسلم.

 

وجدت الشخصية الفارسية ضالتها المنشودة في حالة التعاطف مع قرابة النبي عموماً، والإمام علي وأبنائه من فاطمة خصوصاً أو ما عرف بالتشيع، واستخدمت مخزونها الثقافي في خطوط أساسية له لصياغة ما يمكن وصفه بأنه "إسلام فارسي" يتمتع بجاذبية تمكنها من المشاركة في رسم الثقافة الإسلامية الوليدة، وفي ذات الوقت يتيح استمرارية من نوع ما للشخصية والهوية الفارسية، توفر لها مقدرة الرد على الهزيمة الدينية والسياسية والعسكرية من العرب المسلمين بزرع أيديولوجية تزعزع وضعهم من الداخل.

 

تضمن الخط الأيديولوجي الفارسي بناء فكر ديني – سياسي يزاوج بين الإسلام ودعامات الثقافة الفارسية القائمة على مفاهيم الوراثة القرابية للمكانة الروحية والسياسية، وما يمكن تسميته "الأسرة المقدسة"، وما لهذه المفاهيم من طابع استعلائي يضع تأكيدات فصل صارمة وثابتة داخل المجتمع المسلم، والقائمة كذلك على عقيدة المخلص الجيني المنتظر الذي يتزعم معارك الثأر. وهي مفاهيم يبدو فيها الخليط اليهودي، والمسيحي، والزرادتشي واضحاً. تعمل هذه الأيديولوجية على مسارين تفكيكيين، الأول، ديني يخلق قاعدة هوياتية، تطورت في مكونها الرئيسي إلى ممارسات طقوسية، تكفل الحفاظ على التمايز داخل الصف الإسلامي، وبين مكوناته. وثانيها، سياسي يعتمد على الأول في تحويل مسار الصراع من متغير اجتماعي إلى ثابت ديني.

 

ربما يُعطي استعمال لفظة "أيديولوجية" أولوية للمجال السياسي في ردة الفعل الفارسي، وهو مهم على أية حال لا سيما والسقوط الأول على يد العرب المسلمين كان سقوطاً سياسياً، غير أن ردة الفعل كانت أبعد من وجهها السياسي وتتوغل في عمق التشكيل الثقافي والفكري للمسلمين لضمان امتداد تأثير البصمات الفارسية الأولى عبر الزمن. وما يمكن الإتيان به كشاهد على هذا هو أنه ل

 

وكانت المسألة متصلة بإعادة التموضع السياسي الفارسي فقط داخل المنظومة الإسلامية فإن الأحرى الانخراط  في الفكر الخارجي لسببين رئيسيين، أحدهما، أنه لا يشترط القرشية ولا العروبة في من يحق له تولي خلافة المسلمين، وفكر كهذا يتيح – نظرياً على الأقل – فرصة أن يكون الخليفة فارسياً، أما السبب الثاني، فمرتبط بأسلوب التمرد الخوارجي وأكثر من ذلك قتال السلطة القائمة، العربية حينها إلا أن ما حصل هو التقاط الفرس لفكرة التشيع لأنها تتوافق مع ما نستطيع أن نطلق عليه الشخصية الفارسية "الثيوستقراطية"، بخلاف الطابع "الديمقراطي" لمفهوم الخليفة في النظرية الخوارجية. إضافة إلى أن فكرة الخوارج كانت ممثلة – غالباً – بمجاميع محددة، ومحدودة لا تحظى بأسباب تعاطف كبيرة من بقية المسلمين ما جعلها بالتالي هدفاً عسكرياً وفكرياً سهلاً غير متغلغل في زوايا غير مرئية داخل المجتمع الإسلامي، بعكس الوجود المتشعب والمشتت للتشيع والتعاطف الكبير الذي يحظى به، عبر قدر من الشرعية القبلية المتمكنة ذلك العصر. نتوقف قليلاً عند هذه العبارة لأنها تستحق ولارتباطها الوثيق بالموضوع.

 

سلسلة حلقات تنشرها وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة الثانية..

 

لقراءة المزيد:
- السرطان الفارسي.. وهم التفوق (الحلقة 1)

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية