أمام إحدى المكتبات في شارع حدة وسط العاصمة صنعاء، وقف عدد من الأشخاص يجولون بأنظارهم بين عناوين الصحف القليلة، وكان بينهم رجل أنيق المظهر غزا الشيب شعر رأسه وشاربه المسرحين بعناية، يتأمل الصحف المرصوفة على المنضدة ويقلب صفحات بعضها، لكنه في النهاية اكتفى بشراء صحيفة الثورة "الرسمية".

 

سأله العامل في المكتبة عندما مد يده لدفع ثمن الصحيفة "ليش يا استاذ احمد ماعاد تأخذ إلا الثورة بس، وكنت تزكّني أحجز لك نسخة من كل الصحف".؟

 

رد "الأستاذ أحمد" يا ابني قد كلهن صحيفة واحدة، أسماءهن مختلفة بس".

 

وأردف بتنهيدة عميقة "الله يفك أسر ألقفنا (أفواهنا)" وقبض باقي نقوده وانصرف.

 

لون واحد

على مدى يتجاوز الثلاث سنوات أخذت الصحف بالتناقص في الأكشاك والمكتبات في المدن الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، فبينما كانت الإحصائيات الرسمية تشير إلى صدور تراخيص لأكثر من 400 صحيفة ورقية، ومجلات، بين يومية، ونصف أسبوعية، ونصف شهرية، وأسبوعية وشهرية، العشرات منها كانت تعج بها المكتبات، لا يكاد اليمنيون في ظل السلطة الحوثية يجدون غير عدد لا يتجاوز أصابع الإنسان من الصحف، باتت جميعها اليوم لا تخلو من البصمة الحوثية ذات اللون والاتجاه الواحد، وأصبحت الصحف المحلية المستقلة والحزبية المتعددة، ناهيك عن الصحف والمجلات العربية، واحدة من ذكريات اليمنيين مع حرية التعبير وتعدد الآراء.

 

ويتذكر كثير من اليمنيين المهتمين تدشين الحوثيين عهدهم بعد غزو صنعاء والمدن اليمنية باقتحام وسائل إعلام مرئية ومقروءة ومقرات مواقع إخبارية إلكترونية، كان آخرها فضائية، وصحيفة "اليمن اليوم" المواليتين للمؤتمر الشعبي العام الشريك السجين في المعتقل الإيديولوجي الحوثي، ثم السماح لصحيفة الميثاق، وموقع المؤتمرنت، والميثاق نت، باستئناف أنشطتها لكن بشكل هزيل يمثل الرؤى الحوثية أكثر مما يعبر عن المؤتمر الشعبي، الضحية الجديدة للصلف الإقصائي والانتقامي الحوثي، لدرجة حظر نشر أية صور لمؤسس المؤتمر الرئيس السابق الشهيد علي عبدالله صالح في هذه الوسائل.

 

يقول الإعلامي ي. ن "ليس غريباً على حركة تحمل طابعاً دينياً طائفياً يرتكز على معتقد الحق الإلهي أن تخرج على الناس بكم هائل من الحقد والنزعة الانتقامية الثأرية من كل ماله علاقة بالجمهورية والحداثة والديمقراطية وعلى رأسها حرية التعبير وتعدد الرأي ووسائلة".

 

ويقول س.ع. صاحب أحد أكشاك بيع الكتب والصحف إنه كان يقضي معظم وقته في قراءة الصحف، ويضيف " كنت أجد في الماضي متعة في مطالعة الصحف، ومتابعة مقالات لكتاب محترمين، كنت أجد الاشتراكي والمؤتمري والاصلاحي وغيره. صحيح كانت المزايدات والمكايدات موجودة لكن كان القارئ والمتابع يستطيع استخلاص الحقائق والآراء بعكس اليوم، تقرأ كل الصحف وكأنك تقرأ صحيفة واحدة، أما الكتّاب فمن حق يا الله طلبناك".

 

وإلى جانب إفلاس أو إغلاق بعض الصحف، وحجب أغلب المواقع الصحفية الإلكترونية، وحظر وسائل الأخبار التلفونية، وحصرها بأخبار وسائل الإعلام الموالية لها، حولت الجماعية الحوثية وسائل الإعلام الرسمي إلى وسائل معبرة عن الجماعة وفي حين كانت الفعاليات الحزبية لا تلقى إلا مساحات محدودة في وسائل الإعلام الرسمية تقتصر على مناسبات معينة كالمؤتمرات الحزبية العامة، أو أثناء العمليات الانتخابية، وفقاً للقوانين، صارت الوسائل الرسمية حكراً على الجماعة وتغطي أنشطتها، وفعاليات قاداتها بغض النظر عن وجود صفات رسمية لهم في سلطتها، كتصريحات رئيس ما يسمى باللجنة الثورية العليا محمد علي الحوثي، الفاقد مع لجنته أية صفة دستورية أو قانونية.

 

وفي مسيرة احتكار الرأي وقنواته جرف الحوثيون مصادر دخل مئات العاملين ليس في وسائل الإعلام الموقوفة فحسب، بل والكثير من العاملين في المكتبات والأكشاك، وبات من المألوف وجود إعلانات البيع، وإغلاق المكتبات وأكشاك الصحف أبوابها في المدن الواقعة تحت السيطرة الحوثية، يقول محمد .ع صاحب كشك بيع كتب وصحف بصنعاء "كنت أغطي مصاريفي من أرباح بيع الصحف، ولما قلّت لم أستطيع الاستمرار خاصة ومبيعات الكتب وأرباحها قليلة جداً".

 

"بلطجة" التضييق

عقيدة الإقصاء، والرؤية الأحادية لدى الحركة الحوثية نابعة من ثقافة استقاها مؤسس الحركة حسين الحوثي من مقولات دينية ترتكز على مبدأ الولاية – الروحية والزمنية – واعتبارها حقاً إلهياً لا شأن للبشر في قبوله أو رفضه، وما يستتبعه ذلك الحق من اعتقادات العصمة من الخطأ، والإلهام الإلهي، واحتكار الحقيقة، وهي ذات المقولات التي بنى عليها ملالي الخميني في إيران نظريتهم في الحكم والأحادي النظرة وتداعياته في الوصاية على الشعب وقمعه.

 

ويستلهم الحوثيون التجربة الإيرانية الخمينية في التحكم بمفاصل التعبير وقنواته، المستوحاة في أصولها الحديثة من أساليب وأدوات الفاشية والنازية.

 

ومن بين تلك الأساليب المستخدمة من قبل الحوثيين تفويج عناصر موالية لهم من فئة (يقرأ ويكتب) إلى المضمار الإعلامي، بالتزامن مع محاولة استقطاب إعلاميين من ذوي الخبرات بعضهم أعضاء في نقابة الصحفيين اليمنيين، وللتخلص من نفوذ النقابة وشروطها للاعتراف بشخص ما كصحفي، لجأ الحوثيون إلى إزاحة النقابة وإنشاء كيان بديل بمسمى "إتحاد الإعلاميين اليمنيين".

 

وإمعاناً في خنق الرأي المخالف أصدر وزير الإعلام في سلطة الحوثيين أحمد حامد خلال يوم واحد في أواخر أغسطس الماضي لائحتين تنفيذيتين، أولاهما "لائحة تنظيم المنشآت الصحفية الخاصة المسموعة والمرئية "والثانية" لائحة تنظيم الصحافة الالكترونية"، وعدهما لائحتين لتنفيذ قانون الصحافة والمطبوعات الصادر عام 1990م متجاهلاً أن هذا القانون لا يتطرق إلى الإعلام التلفزيوني أو الإذاعي أو الالكتروني، إذ لم تكن الصحافة الإلكترونية وقتها موجودة في اليمن، كما كان الإعلام المرئي والمسموع حكراً على الدولة.

 

واشتملت اللائحتان الحوثيتان على مواد تضع اشتراطات مالية وإدارية معقدة، وتمنح وزير الإعلام، لا القضاء، صلاحيات اتخاذ إجراءات عقابية بالحجب والمنع، غير إعطاء الإدارة الخاصة بمنح التراخيص صفة الضبطية القضائية.

 

ممارسات قمعية

واستكمالاً لحلقة السيطرة على الإعلام، عزز الحوثيون تحركاتهم باتجاه محاولة عزل الإعلام المخالف عبر ممارسات قمعية.

 

تذكر نقابة الصحفيين اليمنيين المتواجدة معظم قياداتها خارج مناطق السلطات الحوثية أنها رصدت السنة المنصرمة 300 حالة انتهاك طالت "صحفيين ومصورين وعشرات الصحف والمواقع الالكترونية، ومقار إعلامية وممتلكات صحفيين" في عموم اليمن، ارتكب الحوثيون 204 حالات منها.

 

وتنوعت حالات الانتهاك وفقاً للنقابة بين اختطافات واعتقالات وحجب المواقع الإلكترونية، والاعتداءات والتهديد والتحريض، إلى جانب الشروع في القتل والمصادرة والنهب لممتلكات الصحفيين ووسائل الإعلام".

 

وتنوعت حالات الانتهاك وفقا للنقابة بين اختطافات واعتقالات وحجب المواقع الإلكترونية، والاعتداءات والتهديد والتحريض، إلى جانب الشروع في القتل، والمصادرة والنهب لممتلكات الصحفيين ووسائل الإعلام.

 

وتضيف النقابة في تقرير لها "هناك أيضاً" 11 حالة محاكمة، 11حالة تعذيب لصحفيين" غير 14 صحفياً مختطفاً منهم 13 لدى جماعة الحوثي منذ ما يزيد على العامين".

 

وفي رصدها 20 نوعاً من الانتهاكات أشار تقرير صادر عن منظمة للإعلاميين اليمنيين إلى 2250 حالة انتهاك ضد صحفيين، وغيرهم من العاملين في المجال الإعلامي، بينها قتل الحوثيين22 صحفياً بعمليات قنص "واستخدامهم دروعاً بشرية"، وكذا اختطاف 141 صحفياً، خلال ثلاث سنوات مضت.

 

يسعى الحوثيون إلى اتباع خطوات أساتذتهم في طهران إبان استحواذ أنصار ولاية الفقيه (الخمينيين) على مفاصل الدولة والحياة في إيران عقب إقصاء شركائهم في الثورة، وفيما استطاع أولئك في ثمانينيات القرن المنصرف استخدام الإعلام وقنوات التواصل الجماهيري كأحد أبرز أدوات السيطرة، يقف الحوثيون في مأزق تواجدهم في كنف انتشار واسع لمصادر المعلومات الجماهيرية من فضائيات ومنصات تواصل اجتماعي قادرة على أن تسهم في إسقاطهم كما كادت أن تودي  بسادتهم العتيقين خلال احتجاجات ديسمبر الفائت، وما تزال تفعل فعلها في نخر سلطة طهران.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية