قد تكون ذكرى المبدع غير مبرّرة بحضورها إن كان حضورها لا يحمل الخاص دون العام الذي تم تداوله مرات كثيرة، كي نعيد قراءة اللامقروء فيما نتذكره، لا أن تكون ذكرانا بحسب حماسنا أو تعاطفنا أو بحسب سعادة اللحظة التي نحن فيها، وما تحمل من جدوى غير مرغوب فيها، وتتنكر أفعالنا على رموز ثقافتنا وإبداعنا، وخاصة إذا كان عقد ونصف من الغياب، ومع هذا لا يزال عالم البردُّوني غائباً، ولم تكتمل صورته في وعينا كأنما خيالنا قاصر عن استيعابه، أو أنه يفوق طاقته الاستيعابية كلما كانت ملفات بحجم البردُّوني تثقل كاهله.

ما بهمني هنا، هو كيف جاء هذا الإنسان المسمى (البردُّوني) بهذا الشكل المختلف وبهذا الحجم المغاير لمن حوله، وكيف انعكست ثقافته وبدت خاصة بالنسبة لمجتمعه، وخاصة بالنسبة لإبداعه، وحينما نعجز عن فهم عالمه أو الولوج فيه، أما أن تغلب عاطفتنا على تفسيرنا فنحيله إلى مقدس مهال لا يلزم تفحص وجوده، أو تضعف قدرتنا فنوصمه بالأسطورة ونقربه من الميتافيزيقا، وتصبح هي وحدها الأقدر عليه، كون عاهته أشفع على قدراته المعجزة، كما هو مشاع. 
                         - 1 – 
البردُّوني ذلك الفتى الذي أرغمته ثقافة مجتمع ما على إثبات وجوده، حتى يتمكن من البقاء، وإلا ربما لفظته من جغرافيتها للعاهة، التي يقابلها المجتمع بثقافته بالرفض والعنف، الرفض المذل أو العنف القاسي، وخاصة إذا كان في رقعة جغرافية ذات نزاع قبلي "متثأر"، يحضر فيه الثأر والقتل أكثر من حضور السلم والتعايش، رغم قسوة المادة وغيابها شبه التام، هل يبقى فتى مثل البردُّوني وسط هذا النوع البشري غير الطبيعي، وهذا ما دفعه ودفع أسرته بنقله إلى ذمار ليتعلم ويعلم الصغار بما لديه من قدرة طفولية على الفهم والكسب المعرفي المبكر، كي يتحمل أعباء نفسه ويكسر بقاءه المرفوض في أسرته، هذه الحالة التي يجعل منها البردُّوني منطق حياته وسر اختلافه وهي الرفض المطلق للإذلال أياً كان نوعه، ومتابعة هذا الرفض لإرادة لا تكسر ولا تتراجع، مما جعل هذه الطريقة تسيطر على أغلب تصرفاته وأغلب تفكيره، وبقدر المسافة التي تمكنه من الخطو، فهو مغامر مجرب، وستلحظ ذلك فيما بعد.

وحينما واصل خطوته الثانية نحو صنعاء، نحو مدينة ليس له صاحب ولا قريب، ولا يعرف من أحوالها شيئاً, سوى أنها مدينة يمكن أن توفر له البقاء، أن تسد رمقه الوجودي، أن تمنحه عصمة من ويل مجتمع قاسٍ في ذمار، وليس في جعبته إلا المغامرة التي لا يفعلها شخص سليم، فما بالك بهذا المفتقد لحاسة مهمة، وقصة وصوله صنعاء، ووقوعه من سور كبير على (مقشامة) تزرع الخضراوات، وما لاقاه في ذلك اليوم، حدث يكبر من خلاله البردُّوني، ويصبح به إنساناً لن ينساه التاريخ، حتى لو لم يكن شاعراً أو مبدعاً، ترى! هذه أول أيام البردُّوني في صنعاء ينتظر حنانها فقابلته بصورة لم يتوقعها مطلقاً، وكيف انعكست تلك الحادثة على تصوره.
-2- 
هذا التلقي المؤلم لشخص البردُّوني من الحياة والمجتمع، لم يقابله بانتقام ولم تنعكس مشاعره سلبياً تجاه هذا المجتمع، بقدر ما كانت إيجابية التأثير والتلقي عنده، حينما رأى لماذا يعمل بهذا الشكل، هل المجتمع حاقد وقاسٍ لهذا الحد، أم أن ظروفه هي من أحالته إلى نمور في غابة، تصارع من أجل أن تعيش، كل يقسو على الآخر، وما الذي دفعه، ورسم تصوره للحياة أي المجتمع، لتصل قناعة البردُّوني، بأن الاستبداد والظلم وقهر الحاكم هي من أرغمت المجتمع وعكرت طريقة عيشه، وأبعدته عن الاستقرار بقدرتها على تجهيله، وهنا يكتشف منبع الشقاء ومصدر كل ذلك القبح الشائع كسلوك في حياة الناس.

تؤدي هذه المعطيات دور المنبه والمحفز معاً في وعي البردُّوني، محدثة تفاعلاً مهماً في تفكيره وسلوكه وإحساسه بمن حوله، وطموحه في تغير واقعه، الذي يتفاعل مع كل مجرياته، بنمط آخر يسعى للشعور بها دون غيره، حتى لا ينفلت منه هذا التفاعل دون أن يستوعب تلك اللحظة التي يتلقى بها أمراً ما أو حدثاً معيناً، كي يرسم تصوره الخاص إزاءها، وتقولب في ذهنه، ويبقى حجم الألم في ذهنه أكثر من الشعور به جسداً، حيث تتحول كل مرئياته الشعورية صوراً ذهنية مؤرشفة، يعالجها ويستوضح خصائصها.
                       -3-
البردُّوني هنا يتشكل بصورة مختلفة، بصورة جسدها إحساس مختلف، وواقع مؤلم، وثقافة قاسية، فغدا تشكُّل تكوينه النفسي والاجتماعي أقدم من تشكل تكوينه الفكري والمعرفي والإبداعي، لأن التشكل النفسي والاجتماعي أصبحا يفرضان عليه تكويناً فكرياً ومعرفياً يقوم على أساس الوعي بكل شيء، الوعي المتمثل بالتطلع والحرية، الوعي بالإنسان كوجود وقيمة، الوعي بحياة عصرية، خالية من المقدس الواهم ومخلصة للآخر كوجود وتكوين، وهنا صارت لدى البردُّوني فلسفته الخاصة، فلسفته المتشكلة بقيمة الإنسان وقيمة فكره وثقافته وقيمة إبداعه، وحقيقة حريته التي يلزم حضورها في أرض حرة، لا استبداد ولا كبت ولا حرمان، وهذا يفسر اختلافه في فكرة الإنسان والوطن عن كثير من نظرائه.

وقد تجد في سيرة الرجل الوجودية وسيرة إبداعه قصصاً وحكايات تثبت حقيقة اختلافه في أمور شتى، تثبت عظمته، ونقاء كينونته، وحلمه المتسع بإنسانيته وشعبه.
                    -4-
قد نسأل أنفسنا أحياناً، هل البردُّوني مبدع بالصورة المتضخمة، والمتفردة التي هي عندنا؟؟ أم أن عجز كثيرين عن مجاراته والبروز أكثر منه؟ أو وجوده في بلد متخلف إبداعياً جعلنا نراه كبيراً، ولنا الحق في هذا التساؤل طالما أن حكايات كثيرة تصاغ عنه، له أو عليه.

ولا يخفى على أحد أن وجود البردُّوني شاعراً، جاء في لحظة شهد فيه هذا الجنس الأدبي المسمى الشعر اضطراباً شديداً سواءً للتحول أو للبقاء، مما يجعل لشاعر مثله طقساً مختلفاً، ما الذي يمكن أن يبقى فيه؟ وكيف يصمد ويختلف ويتميز؟ والأغلب يدرك إصرار البردُّوني على الشكل العمودي والبقاء داخله، رغم التحولات كما ذكرنا، ليس عجزاً ولا استنكاراً، لا اعتزازاً بالعمود ولا تقليلاً للنثر أو التفعيلة، وإنما انسجاماً وصراعاً من أجل بقائه بهذا الشكل، كما بقي هو كإنسان رغم كل العواصف، وليس البقاء العادي وإنما المختلف والمتميز، المختلف بكل خصوصيات الشعر ومرجعياته وتكوينات صوره وخيالاته وتمثلاته الفكرية والوجودية، وتلوينه بقيمة الإنسان والوطن، وصموده أمام جوارف شعرية هائلة، وهذا منحه خلوداً مختلفاً له كإنسان أبدع بتفرد، واختلف بندرة.
                     -5-
أختم هرائي بالقول, إن البردُّوني، سخَّر ثقافته ومركزه وفكره، بما يجعل الإنسان هو المركز الذي تدور من حوله الثقافة والسلطة والشهرة والمجد والمال، لا تتسلط عليه وإنما تنفعه، تحفظ وجوده المادي والمعنوي، فكان البردُّوني مثقفاً منحازاً لقيم المدنية والديمقراطية والحداثة التي لن يستقر حال الشعوب إلا بها، ولا يمكن اختفاء تعاستنا والأورام المتفشية في فكرنا وسلوكنا إلا بالانحياز والاعتبار لهذه القيم، فكان فرداً, لكن همومه وشواغله الإنسانية فكراً وإبداعاً وسلوكاً، هموم أمة وجيل بأكمله.

أخيراً، تأتي أطياف ذكراك ونحن في ظرف ليس للطيف ولا للضيف معنى، لكنك تضغط علينا بقوة، وأنت تتوجع على يمن يتمزق تحت طائلة الصراعات السياسية والقبلية وقد تغدو طائفية، وليس لنا فيها ناقة ولا جمل، سوى أنها تجتاح أحلامنا وتكسر استقرارنا، وتعيدنا من حيث بدأنا، ليتك هنا، ليتك هنا.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية