ندوة في المخا: كيف ساهمت الإمامة في إسناد وإطالة أمد الاحتلال البريطاني؟
قدّم الباحث الدكتور عبدالفتاح الناحية، في الندوة التي نظمتها جامعة الحديدة وقناة الجمهورية، اليوم، في المخا بمناسبة احتفالات شعبنا بأعياد الثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر؛ ورقة بحثية لتوثيق إسهامات نظام الإمامة في إسناد وإطالة أمد الاحتلال البريطاني.
وبينت الورقة الأدوار التي قامت بها الأنظمة الكهنوتية، وعلاقتها مع قوى الاحتلال البريطاني كأداة رخيصة بيد المستعمر ضد أبناء الشعب اليمني.
توزعت الورقة على ثلاثة محاور:
• المحور الأول: الكهنوت أداة بيد الاستعمار والقوى الأجنبية بين وقائع الماضي وحقائق الحاضر.
لم تتآزر آفتان على الشعب اليمني في تاريخه المعاصر كما فعلت آفتا الاستعمار الأجنبي والحكم الإمامي المستبد الكهنوتي المتخلف، ممثلاً بأسرة حميد الدين، فقد توافق الطرفان– بعدما حقق كل منهما هدفه في السيطرة على جزء من الأرض اليمنية- على إبقاء خارطة اليمن ممزقة ينهشها الطاعون الإمامي شمالاً، ويستبد بها الطغيان الاستعماري جنوباً، أو كما قال الشاعر اليمني الراحل أحمد السقاف يصور حالة اليمن في براثن الوحشين الضاريين:
تقاسموها ففي صنعاء طاغية
ٌوفي الجنوب عدوٌ غاشمٌ ضغنُو
على الرغم أن الإمام يحيى حميد الدين قبل سيطرته على السلطة في الشمال اليمني كان يتحدث عن اليمن الواحد، وظل يطلق الوعود بأنه سيعمل على تحرير الجنوب اليمني المحتل من بريطانيا تمهيداً لاستعادة وحدة اليمن ليعود كما كان في السابق موحداً قوياً محتفظاً بقوته ومحافظاً على سيادته، لكن سرعان ما تبين أنه كان يتطلع فقط للوصول إلى السلطة -ولو على جزء صغير من الأرض– وهو ما حصل عليه بعدما غادر الأتراك العثمانيون شمال اليمن في العام 1918 عقب خسارتهم في الحرب العالمية الأولى، فقد استولى على الحكم في صنعاء والمناطق المجاورة ثم بدأ يجري بعض المناورات التي لم تكن سوى امتداد لوعوده السابقة، وتفاجأ اليمنيون في شمال اليمن وجنوبه بالإمام الذي زعم أنه سيعمل على طرد الاستعمار يوقع الاتفاقات مع سلطات المستعمر على أن يبقى كل طرف مسيطراً على مناطق نفوذه، مقابل الاعتراف المتبادل، اعترفت سلطات الاحتلال البريطاني بسلطة يحيى حميد الدين على المناطق الشمالية من اليمن، وهو اعترف بسلطة الاحتلال على عدن والمحافظات الجنوبية والشرقية التي أطلقت عليها بريطانيا "مستعمرة عدن والمحميات"، والمحميات هي المناطق التي كانت موزعة إلى سلطنات وإمارات ومشيخات يبلغ عددها نحو 23 مشيخة وإمارة (محمية).
وإمعاناً في تمزيق الممزق وتقسيم المقسم شرعت بريطانيا في وضع قوانين ولوائح وأنظمة لكل جزء من الجنوب كما لو كان دولة خاصة مع أن المسؤول الأول في الدولة المفترضة مجرد تابع لسلطات الاحتلال الأجنبي ومنها يتلقى التوجيهات والأوامر وكذلك الدعم والمعونات والمساعدات المادية الشحيحة، وقد عززت بريطانيا سلطاتها في الجنوب بشكل أكثر بعدما أبرمت معاهدتها مع الإمام يحيى، وهي المعاهدة التي وقعها الطرفان في العام 1934، وقد استغلت بريطانيا تلك المعاهدة التي تعد اعترافاً بسلطتها على الجنوب وتقسيماً لليمن، وبدأت في تنفيذ سلسلة من الإجراءات الرامية إلى ترسيخ سلطتها في المحميات، سيما وأن المعاهدة تضمنت التزام الطرفين بـ"عدم دعم أي تحرك في داخل ممتلكات الطرف الآخر، بشكل يعد خرقاً لشروط الاتفاق المبرم"، وبقدر ما كشفت المعاهدة عن تنصل الإمام يحيى حميد الدين من كل وعوده السابقة في السعي لتحرير الجنوب، أكدت أيضاً أنه حريص على الوفاء بكل التزاماته تجاه الانجليز مقابل أن يضمنوا له البقاء حاكما في الشمال، من خلال عدم سماحهم لأي تحرك مناهض لسلطة الإمام ينطلق من مناطق وجود الإنجليز، مع التزامه بالشيء نفسه، وهو محاربة أي توجه يسعى لمقاومة الاحتلال البريطاني.
وقد كان الكهنوت الإمام يحيى، حينها، أكثر احتياجاً لتعزيز سلطته خاصة وأنه في تلك الفترة –ثلاثينيات القرن العشرين- كان يخوض سلسلة حروب وانتفاضات في مختلف أنحاء مملكته، كالحرب في الحدود الشمالية مع المملكة العربية السعودية التي انتهت لصالح الأخيرة، وكذلك حربه لقمع الانتفاضات في مناطق تهامة غرب اليمن، وفي الجوف شمال شرق البلاد، وتزامن ذلك مع التنازل الذي أبداه الإمام للاحتلال البريطاني من خلال اعترافه باحتلال بريطانيا لعدن والجنوب اليمني لمدة 40 سنة، وهو ما يعني أن سلطة الإمامة سلمت الشعب في الجنوب وأكثر من نصف الأرض اليمنية هناك للاستعمار، وتبين للأحرار اليمنيين في جنوب اليمن أن السلطات الإمامية خذلتهم وحطمت آمالهم، فضلا عن أن التعامل السيئ من قبل الكهنوت الإمام يحيى وأعوانه مع أمراء مناطق الجنوب دفعهم للارتماء في أحضان الانجليز والعمل لصالحهم.
الكهنوت في مواجهة الثورة (سبتمبر وأكتوبر)
بعدما قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في العام 1962 ضد الحكم الإمامي في شمال اليمن، استشعرت سلطات الاحتلال البريطاني الخطر الكامن في هذه الثورة، فعملت جاهدة على دعم فلول الإمامة التي كانت تتخذ من بعض أطراف البلاد معاقل لها ولأتباعها، وأخذ الدعم البريطاني ينهال على قطعان الإمامة –حلفاء الاحتلال الذين طالما خدموه وقدموا له قرابين الولاء والطاعة وتنازلوا له عن الأرض والهوية والسيادة والقرار الوطني، وجدت بريطانيا نفسها ملزمة برد الدين لفلول الكهنوت، التحقوا بهم إلى جحورهم التي يتخفون فيها في أقصى صعدة وأطراف الجوف وبعض الجيوب بين بيحان ومأرب، وحصلت فلول الحكم الإمامي على الدعم الكثير من المال والذهب والأسلحة فضلاً عن توفير الغطاء السياسي والإعلامي والاعتراف بما بقي من عناصر أسرة يحيى حميد الدين وأحفاده الذين حصلوا على دعم الانجليز بهدف الحرب على الثورة اليمنية التي حصلت على الدعم والتأييد العربي بقيادة جمهورية مصر ورئيسها جمال عبدالناصر.
استنفرت بريطانيا كل جهودها وإمكاناتها في دعم الإماميين الذين أخذوا يشنون الغارات والعمليات الغادرة ضد الثورة وجيشها طمعاً في إعادة عجلة الزمان إلى الوراء، حينما كان آباؤهم وأجدادهم يمارسون الدجل والتضليل باسم الدين والحق الإلهي المزعوم من أجل ضمان البقاء حكاماً يملكون السلطة والثروة ويستأثرون في الحديث باسم الدين والدنيا، دون مراعاة لحق الشعب في اختيار حكامه والعيش على أرضه بحرية وكرامة.
وفي المقابل عندما قامت ثورة الرابع عشر من أكتوبر عام 1963 ضد الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن عملت فلول الإمامة على إفشال الثورة وعرقلة سير الثوار من خلال مضاعفة الحرب على النظام الجمهوري شمال اليمن، والقوات المصرية الداعم الأبرز للثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر، وكل ذلك بدعم وتوجيه السادة الانجليز الذين كانوا يقفون خلف كل تحركات القطعان الإمامية المأجورة التي أثبتت مرة بعد أخرى أنها أداة رخيصة في يد الاستعمار الأجنبي، تنفذ خططه وتدعم مخططاته وتسعى لتحقيق أهدافه- مقابل حصولها على الفتات التافه في أسواق المزاد الرخيص.
الكهنوت الحوثي.. أداة إيرانية
وظلت فلول الإمامة تحارب اليمن وثورته لصالح أسيادها الداعمين من وراء الحدود والبحار، وما ذلك الدعم والإسناد الأجنبي لبقايا الإماميين في حربهم على الشعب اليمني وثورته إلا دليل يؤكد حقيقة واحدة مفادها أن عصابات الكهنوت الإمامي المتخلف ليست سوى أدوات لتنفيذ الجريمة التي تستهدف الشعب اليمني وأرضه وتاريخه وهويته وثورته وأهدافه النبيلة في التحرر من الظلم والاستبداد وبناء الدولة اليمنية الحديثة.
واليوم تتكرر الوقائع لتتأكد الحقائق التي اختبرها اليمنيون واختبرتهم سنوات طويلة، تكرر عصابات الإمامة ارتهانها لقوى الإجرام فيما وراء الحدود على حساب اليمن حاضره ومستقبله والملايين من أبنائه، أشعلت المليشيا الحوثية- النسخة الجديدة من الكهنوت القديم المتخلف، حربها على اليمن من خلال الانقلاب المشؤوم الذي صنعته أياد إيرانية في قم وطهران وضاحية بيروت، ولا تزال الحرب مستمرة لتستمر معها المعاناة وتزيد بسببها أعداد الضحايا قتلى ومصابين ونازحين ومشردين ولاجئين في الداخل والخارج، بينما تواصل المليشيا تدمير منشآت البلد وتخريب معالمه والعبث بحاضره ومستقبله، لا لشيء إلا لكي تتحقق أهداف طهران في إبقاء نار الحرب مستعرة في جنوب الجزيرة العربية وبالقرب من ممرات الملاحة الدولية وحركة التجارة العالمية، في تأكيد واضح على توجهات شياطين طهران وابتذال أتباعها والموالين لها- أدواتها القذرة في الحرب على اليمن وأمنه واستقراره وجواره الإقليمي ومحيطه العربي والعالمي.
• المحور الثاني: تنسيق الإمامة والاستعمار.. سيناريو التمزيق البريطاني المتوكلي
بسبب نظرية الخروج في الفكر الهادوي وبسبب عنصرية نظام الإمامة الهادوي ومذهبيته لم تستتب الأوضاع في اليمن؛ فكان يحرص على عدم بسط نفوذه على اليمن كافة. حتى لا يؤدي ذلك إلى اجتماع اليمنيين واتفاقهم عليه.
علماً أنه بمجيئ الهادي في عام 284هـ عرف اليمن أول إعلان انفصال، وذلك عندما أعلن الهادي انفصاله بصعدة، ثم وقع اليمن، بسبب نظرية الخروج، تحت وطأة الكيانات الانفصالية المتعددة إلى درجة أن أحدهم قد يعلن نفسه إماماً على قرية أو اثنتين.
وقد بلغ هذا الوضع الفوضوي أوجه في منتصف القرن الثالث عشر الهجري حينما تداول الحكم ما يقارب عشرين إماماً في أقل من شهر. الأمر الذي دفع ببعض الهادويين إلى الاستنجاد بالأتراك العثمانين الذين دخلوا صنعاء في العام 1849، بدعوة من الإمام المنصور محمد بن يحيى.
وهناك خطأ تاريخي يقع فيه الكثيرون حينما يحسبون مجيئ الاستعمار البريطاني إلى عدن 1839م الموافق 1254هـ وكأنه بداية التشطير في اليمن على هيئة شمال وجنوب؛ إذ الأصح أن أحد الأئمة من بيت القاسم (الحسين بن القاسم) هو الذي سبق إلى إعلان الانفصال بعدن (1144هـ). الأمر الذي أفسح المجال للتشرذم ونشوء السلطنات والمشيخات التي عمق وجودها الاسمي الاستعمار البريطاني الذي قام بإضعاف كل تلك الكيانات وسلبها كل أسباب القوة حتى لا تسعى إلى طرده.
ومعروف أن الاستعمار لم تستتب له الأوضاع في عدن إلا بعد أن خاض معارك ضارية وغير متكافئة مع سلطان لحج (فضل العبدلي) الذي أبلى بلاءً حسنا.
وبسبب شكيمة القبائل اليمنية في جنوب البلاد اكتفى الاستعمار بتواجده في عدن فقط، ولم يتسن له بسط هيمنته السياسية على مناطق جنوب وشرق اليمن إلا بواسطة الدس والخديعة وسياسة "فرق تسد". ولذا فإن الاستعمار مثل الشق الثاني من مقص التشطير في اليمن.. وقد عمل بعد مجيئه على توثيق الروابط بالكيان الانفصالي الموجود في شمال اليمن والمتمثل بالإمامة التي أوشكت أن تموت بفعل الخواء الذاتي، لكنها استعادت شيئاً من الحيوية بعد مجيئ الاستعمار وتحالفه مع الإمامة التي تكفلت بوأد أية محاولات تحريرية منطلقة من الشمال.
علماً أن نظام الإمامة في شمال اليمن قد أعاق لعدة مرات فرصاً عديدة لتوحيد اليمن، قبل وبعد الاستعمار، منها ما يذكره المؤرخ محمد بن علي الأكوع الحوالي أن إمام صنعاء رفض في القرن التاسع عشر دعوة للوحدة تحت حكم الإمام تقدم بها وفد كبير من أعيان حضرموت. وهو الموقف ذاته الذي فعله الإمام يحيى عشرينات القرن العشرين عندما رفض دعوة عبيدالله السقاف رغم أن الأخير كتب في الإمام قصائد عصماء جمعها في ديوان "الإماميات".
ثم رفض الإمام يحيى دعوة مشابهة في ثلاثينيات القرن العشرين؛ عندما رفض دعوة للوحدة يكون فيها إماماً لليمن كله..!! وهي التي تقدم بها سلاطين الجنوب إلى الإمام عبر السياسي والأديب التونسي عبدالعزيز الثعالبي الذي فوجئ برد الإمام ووضع الإمام وعقلية الإمام. ووثق القصة كاملة في كتابه "الرحلة اليمانية".
وقد قام الطغاة (الإمامة والاستعمار) بخطوة جريئة كانا يظنان أنها ستمثل آخر مسمار في نعش وحدة اليمنيين. وهي ترسيم حدود دولية بين شطري اليمن 1934، وبموجب تلك الاتفاقية أصبح وكأن اليمن هو الجزء الجغرافي المحصور ضمن سيطرة الإمام بينما الجزء الواقع تحت الاحتلال والانتداب يعد من ممتلكات المملكة المتحدة!!
في المقابل قام البريطانيون بعد اتفاقية الحدود مع الإمام بوضع مشروع سياسي وثقافي يهدف إلى بلورة هوية جديدة لجنوب وشرق اليمن؛ ضمن محاولة يائسة لشرخ هويته اليمنية وذلك عن طريق وضع مشروع اتحاد إمارات الجنوب العربي كما قام الاستعمار ببلورة كيانات سياسية وثقافية وإعلامية تتبنى تعميق مثل هذا الطرح، وربط مصالح هذه الكيانات به، وشجع على إصدار صحف عدنية يومية تعمل على ترسيخ صورة اليمن وكأنه الجزء الواقع تحت إدارة الإمامة بينما الباقي هو الجنوب العربي!!
لكن مثل هذا الخطاب لم يتعد أفواه تلك الصحف ولم يتجاوز حدود مقراتها، بل أدى إلى ردة فعل حازمة من قبل أبناء اليمن شماله وجنوبه دفعتهم إلى إحياء الفكر الوحدوي اليمني وتعرية المشاريع التشطيرية التي كان يذكيها، كما أسلفنا، الإمام المغتصب لكرسي الحكم في صنعاء والمندوب السامي المغتصب لكرسي الحكم في عدن..!
وعندها ربما كان الهاجس الوحدوي لدى الحركة الوطنية هو الذي أدى إلى التعجيل بضرورة تغيير نظام الحكم في صنعاء (الاستعمار السلالي) للتخلص من أحد أطراف المعادلة الانفصالية -وهذا ما حدث عام 1962م- التي سيسهل بعد التخلص منه، تنظيم الجهود والكفاح لإخراج الطرف الآخر وهو الاستعمار البريطاني.
الإمامة وخطرها على وحدة اليمن
تمزيق وحدة الشعب
يذهب أبو الأحرار الزبيري، رحمه الله، في الفقرة الأولى التي هي بعنوان “السيادة الشعبية والمساواة” إلى الرغبة المجتمعية في التحرر من كل ضروب العبودية المتمثلة في الإمامة والاستعمار وإلى التحرر من العبودية الاجتماعية الكامنة في التقاليد الرجعية والفوارق التي تميز بين طبقات الشعب.
أما على مستوى الوحدة الوطنية، فيقول الزبيري إن الاستعمار بمواطأة الرجعية المتمثلة في الإمامة قد شرعا في تقسيم اليمن، وإن الاستبداد في عهد الظلام الإمامي كان يبث الفرقة بين أبناء القسم المستقل عن الاستعمار آنذاك ويغذي بتصرفاته الغاشمة الفرقة المذهبية والإقليمية على القاعدة الشيطانية “فرق تسد”، وكان يفرق في معاملاته بين ما يسمى شوافع وزيود وهذا ما صنع فجوة كبيرة بين اليمنين شمالا وجنوبا، حيث كان يصبغ الناس في أماكن سيطرته بالطائفية ويحرضهم على من سواهم من المذاهب الأخرى بما في ذلك الجنوب المحتل آنذاك.
كما كان يفرق بين القرى والمدن وينمي روح التمجيد بالعرق والسلالة أملا في تمزيق وحدة الشعب ومنعه من التكتل ضد الأوضاع القائمة آنذاك، وكما يفعل الإماميون الجدد “الحوثيون” اليوم من فرز وتقسيم مقيت للمجتمعات الخاضعة لسيطرتهم.
خطر الإمامة على الوحدة الوطنية
يقول الزبيري تحت هذا العنوان، إن “الإمامة من أساسها فكرة طائفية مذهبية يعتنقها جزء بسيط من الشعب وهم الزيدية الهادوية، أما غالبية الشعب اليمني بما فيه الجنوب المحتل من الاستعمار البريطاني فإنهم جميعا لا يدينون بهذه الإمامة ولا يرون فيها حقا في السيطرة عليهم، بل يرون أنها سلطة مفروضة عليهم سياسيا ودينيا وهذه الإمامة لا تقف عند حدود سلطانها السياسي بل تفرض على شطر الشعب معتقدات وطقوسا وأحكاما مذهبية لا تتفق معه”.
وهنا لو نقف مع هذه الفقرة التي أوردها أبو الأحرار الزبيري لوجدناها مطابقة لحالنا مع الإمامة الجديدة التي تفرض معتقداتها على الناس في مناطق سيطرتها من خلال إلزام الناس وخصوصا الموظفين في أجهزة الدولة وطلاب المدارس والجامعات بحضور دوراتهم الطائفية وتغيير المناهج الدراسية والتحشيد القسري للناس وابتزازهم لحضور مناسباتهم واحتفالاتهم الطائفية.
ويذهب الزبيري إلى أن هذا التحكم كان يخلق شعوراً مريراً لدى الشعب ويقسم البلاد ويهدد مصيرها ويشعر الناس أن السلطة الإمامية ليست سوى دخيلة عليه.
ويواصل الزبيري في كتابه “رغم سياسة التمزيق التي اتبعتها الإمامة إلا أن الاستياء منها كان منتشراً وظل رابط الألم يوحد بين أفراد الشعب حتى ظهرت دعوة الأحرار داعية إلى الوحدة الوطنية ومحذرة من الكيان الشيطاني بشقيه الاستعماري والإمامي اللذين يهددان الكيان الوطني والقومي”.
راشد القاعدي: يعتبر كتاب “الإمامة وخطرها على وحدة اليمن” للشهيد محمد محمود الزبيري، الذي أصدره الاتحاد اليمني بالقاهرة من أثمن الكتب التي تتناول قضايا اليمن، والمشكلة الرئيسية في بقائها وسط دوامة صراعات لا تنتهي منذ قرون طويلة من الزمن.
الكتاب تناول قضية هامة تتمثل في دور الإمامة في تشطير اليمن وتمزيق نسيجه الاجتماعي، والذي نعاني منه اليوم وبنفس الوطأة التي كان يعاني منها الثائرون الأوائل واليمنيون جميعاً.
ويوضح الكتاب في مضمونه ما كان عليه اليمن من بؤس وتفرق وضياع وتمزيق في ظل الإمامة البائدة وحليفها المستعمر المنقرض ويدعو إلى محاربتهما ومكافحة أذيالهما في هذا اليمن الكبير.
طبقة حاكمة
يواصل الزبيري تحت هذا العنوان كيف كانت الإمامة تتعامل مناطقياً وسلالياً في إدارة الحكم، فقد كانت تحصر المناصب في السلالة الهاشمية، وإذا خرجت قليلا فإلى أيدي ما يسمى باليمن الأعلى من الموالين لهم فقط بينما يتجرع الآخرون سياسة التجويع والتجهيل والطغيان كما كان يفرض عليهم سلطة روحية تجرعهم من خلالها الأفكار الطائفية المسمومة والجهل والتجويع ثم تطلقهم على الآخرين كما يفعل الإمامة الحوثية اليوم من تعبئة طائفية للمجتمع الرازح تحت وطأتها ثم ترسلهم للقتال في صفوفها وملاحقة مناوئيها.
مهمة الإمامة في الحكم
يوضح الكتاب أن الإمامة لم يكن مهمتها سوى التلبس بالدين والتظاهر بالزهد والانصراف عن عمارة الحياة والتنديد بكل نزعة إلى البناء والعمران ما عدا بناء القصور الإمامية وقبور الأضرحة لأمواتهم.
وهذا عندهم هو المفتاح السحري للسر المغلق في تاريخ اليمن منذ أكثر من ألف عام اتسمت بالهمود والشلل. ثم واصل الزبيري أن “اليمن والإنسانية في مهدها كانت ذات مدنية وحضارة وفنون شتى كالفنون المعمارية وهندسة السدود التي لا حياة لليمن بدونها، وقد مرت هذه العصور الإمامية الطويلة ولم يبق فيها سد واحد في طول اليمن وعرضها”.
وأن الأحباش المستعمرين رغم توحشهم قد كانوا أفضل من الإماميين حيث إنهم لم يلبثوا إلا سبعين عاما في اليمن أعادوا خلالها بناء سد مأرب بعد انهياره تلبية للاحتياجات الزراعية في اليمن.
ويتطرق الكتاب إلى مهمة أخرى من مهام الإمام في الحكم وهي تدعيم مركزه الروحي بين القبائل تحت ستار التشيع لآل البيت حتى يرسخ في أذهان الناس بمناطق سيطرته أن الأمام ظل الله ونائبه في الأرض مدعما ذلك بالحملات الطائفية والتحريضية ضد من يسمونهم “كفار التأويل” الذين لا يدينون بالمذهب الإمامي، وهم الأكثرية الساحقة الذين يسلط عليهم الإمام المدجنين والمعبأين من أتباعه بالطائفية فيسلبونهم وينهبونهم زروعهم وأملاكهم في اليمن الأسفل وتهامة.
وفي هذا بيان واضح للشرخ الذي أحدثه الأئمة في وحدة اليمن فجعلوا بعضا من ما يسمى باليمن الأعلى عصابات نهب وسلب للآمنين في القسم الأسفل وتهامة.
وهذا ما يبدو جليا في سياسة الإمامة الكهنوتية الجديدة التي تحاول من خلال إقامة الفعاليات الدينية مثل المولد النبوي ومقتل الحسين و.. و.. إلى دعوة الناس لمشايعتهم والقتال عن مشاريعهم الظلامية تحت العناوين البراقة التي ظل الأئمة يدجنون بها الناس لمئات السنين.
الشخصية اليمنية في عهد الإمامة
يشير الزبيري إلى انسحاق الشخصية اليمنية في عهد الإمامة، حيث حرمت عليهم قيادة بلدهم وصار التفكير فيها جريمة دينية وسياسية وتم تشويه التاريخ اليمني واستبداله بتاريخ الأئمة وأذنابهم وكلما ظهر بطل من أبطال اليمن يقومون بتشويه تاريخه وصورته ورميه بالكفر والفسق..
وهنا لا بد من التطرق إلى ما يفعله الحوثيون اليوم من شن حملاتهم على الحضارات اليمنية القديمة والتنقيص من قيمتها كما ظهر ذلك جليا في خطاب للهالك حسين الحوثي وهو يتحامل على الحضارات اليمنية العريقة عراقة التاريخ نفسه، وكذلك شروعهم في تهريب الآثار وبيعها وطمسهم لمعالم الثورة والجمهورية.
ثم يستطرد الكتاب في توضيح أن كل ملوك الأرض أقاموا ممالكهم باسترضاء من حولهم واشراكهم في المكاسب مهما كان ذلك الحكم طبقيا أو عصبيا، إلا الأئمة في اليمن فقد أقنعوا الشعب أن حكمهم مستمد من السماء وما عليهم إلا خدمتهم وطاعتهم والقتال عنهم دون أن يكون عليه أي واجب اتجاههم إلا الاستعباد والتجويع.
وبهذه النفسية كان يمارس الإمام مهامه التي تنحصر في استصفاء ثورة الشعب باسم الزكاة والجبايات وقمع الانتفاضات الشعبية باسم الجهاد وقتال البغاة، وبناء المساجد لاستقطاع أموال الشعب وتوريثها لأهله وإقامة الأضرحة للأئمة ليستمر استعبادهم وتهافت الناس عليهم حتى بعد موتهم. هذه قراءة للفقرات الأولى من كتاب “الإمامة وخطرها على وحدة اليمن” للشهيد محمد محمود الزبيري والتي تكشف مدى الشرخ الذي تتسبب به الإمامة في وحدة المجتمع اليمني سياسيا وجغرافيا وثقافيا ومذهبيا واجتماعيا.
• المحور الثالث: المقاومة ضد الأئمة والبريطانيين ترابط مصيري ماضٍ وبطولات وتضحيات بالحاضر
مقاومة الرجعية
إن مقاومة الشعب اليمني لم تقتصر ضد البريطانيين الذين احتلوا جنوب اليمن، بل تفجرت في الوقت نفسه ضد حكم عائلة حميد الدين التي كانت تحكم شمال اليمن، فبعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى حصل شمال اليمن على استقلاله عام 1918، الأمر الذي أدى إلى اشتداد النضال الوطني في الجنوب ضد الاستعمار البريطاني وأعوانه من أجل تحقيق الاستقلال وإعادة الجزء المغتصب في الجنوب إلى أرض الوطن الأم، لكن حكم الإمام يحيى جاء مخيباً لآمال الشعب خصوصاً عندما وقّع مع البريطانيين اتفاقية صنعاء عام 1934 التي اعترف فيها ضمناً بالوجود البريطاني في عدن فكانت هذه الاتفاقية البداية الحقيقية لتعدي أحرار وطلائع الشعب اليمنية لسياسة الإمام التي فرضت حالة من الجمود والعزلة على اليمن فظهرت حركة الأحرار اليمنيين التي عارضت عناصرها علانية حكم بيت حميد الدين وولد عنها حزب الأحرار الذي انتقلت عناصره إلى عدن لتعقد مؤتمراتها العامة معلنة مولد الحزب على طريق النضال ضد التخلف والرجعية، وقد شكل حزب الأحرار خطراً جسيماً على حكم الإمامة ثم ظهر بتشكيل جديد أطلق على نفسه (الجمعية اليمنية الكبرى) عام 1946 وانخرط فيها الكثير من العناصر والشخصيات الوطنية البارزة بمن فيهم سيف الحق إبراهيم نجل الإمام يحيى من أجل القضاء على التخلف في الشمال كخطوة أولى على طريق تحرير عدن من البريطانيين.
محاولة التغيير الأولى
لقد سخّرت هذه الجمعية جميع الطاقات للقيام بثورة 1948 التي تمكنت من استلام السلطة لثلاثة أسابيع بعد قتل الإمام يحيى إلا أن الإمام أحمد تمكن من استعادة الحكم وتصفية قادة الثورة وفي مقدمتهم الضابط العراقي الرئيس جمال جميل الذي أعدم على يد الإمام الجديد مع بقية قادة الثورة الأحرار.
وفي الوقت نفسه كان نضال اليمنيين في عدن مرتبطاً بنضال إخوانهم في الشمال وقد توافق هذا مع ممارسات قمعية قام بها الاحتلال البريطاني ضد المقاومة الوطنية وحين أطلت مرحلة الخمسينيات وتفجرت معها ثورة مصر عام 1952 بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر تأثر بها رواد الفكر والثورة في اليمن حيث لم يعد هدفهم الإصلاح داخل النظام الإمامي أو البحث عن إمام آخر يحل محله في الحكم بل بدأوا ولأول مرة يناقشون مسألة تبني قيام النظام الجمهوري في اليمن بدلاً عن نظام الإمامة وتحقيق وحدة اليمن عن طريق الوحدة العربية في الوقت الذي ارتفعت الأصوات في عدن مؤيدة هذا التوجه الجديد لإعادة توحيد اليمن.
حركة الجيش
إن تصاعد روح المقاومة في اليمن وارتفاع المعنويات مع تصاعد المد القومي لثورة عبدالناصر قد شجع ضباط الجيش اليمني على القيام بانتفاضة ضد الإمام أحمد في مدينة تعز في 31 مارس 1955 وقد أطلق على هذه الانتفاضة اسم (حركة الجيش) بقيادة المقدم أحمد يحيى الثلايا وانضم إليها اثنان من إخوة الإمام أحمد. ولقد أجبر الضابط الإمام أحمد على توقيع وثيقة التنازل بعد أن اعتقلوه في قصره بتعز إلا أن النزاعات الداخلية بين بعض قيادات الجيش قد أدت إلى فشل هذه الانتفاضة الوطنية الجديدة.
عملية الحديدة
في عام 1961 أطلق ضابطان من الضباط الأحرار النار على الإمام أحمد في الحديدة فأصاباه إصابة بليغة ظل يعاني منها إلى أن توفي في 19 سبتمبر 1962 وتولى من بعده ولده الأكبر البدر الذي لم يستمر حكمه سوى أسبوع لينهى بقيام الثورة في 26 سبتمبر 1962.
إنقاذ اليمن
إن هذه الثورات والانتفاضات المتتالية التي قام بها شعب اليمن ضد حكم الإمامة والاستعمار البريطاني قد تتوجت بقيام الجبهة الوطنية المتحدة عام 1955 والتي ضمت جميع القوى المناوئة للاستعمار وبعدها قامت الجبهة القومية التي قادت الكفاح الوطني حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962 بقيادة تنظيم الضباط الأحرار لتنقذ اليمن وإلى الأبد من الحكم الإمامي المتخلف ولتفتح الطريق أمام قيام ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1963 للتخلص من الاستعمار البريطاني في عدن.
المنعطف التاريخي
لقد شكلت ثورة 26 سبتمبر 1962 منعطفاً تاريخياً مهماً في تاريخ اليمن، فهي أول إنجاز حقيقي نحو إعادة توحيد الوطن المجزأ وبناء الدولة اليمنية الواحدة على كامل ترابه، لذلك كان في مقدمة أهدافها بعد القضاء على النظام الإمامي هو مقاومة الاستعمار البريطاني وطرده من الجنوب وقيام اليمن الموحد، وعليه أمر المشير عبد الله السلال بفتح مكتب لجبهة تحرير جنوب اليمن المحتل وأعلن دعمه لنضال الحركة الوطنية فيه ووجه مجلس قيادة الثورة نداء إلى أبناء الشعب اليمني ناشدهم فيه الدفاع عن الثورة أمام العدوان المبكر ضدها الذي نظمه الملكيون المندحرون بدعم قوى خارجية، واستجابة لهذا النداء هب آلاف الوطنيين المتطوعين وخاصة في عدن وردفان والضالع ومناطق أخرى الذين التحقوا بمعسكرات التدريب لحماية الثورة وترك الجنود والضباط الخدمة العسكرية في الجنوب والمقاتلين من القبائل ليلتحقوا بمعسكرات التدريب في تعز.
مأزق العجوز البريطاني
لقد جاء فتح مكتب لجبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل استجابة لنداء القوى الوطنية التي عقدت اجتماعاً موسعاً في مارس 1963 تمخضت عنه لجنة تحضيرية أعلنت بتشكيل الجبهة القومية والتي سميت الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني وافتتح في تعز الجهاز العربي المصري لدعم نضال الجنوب، وهكذا أصبحت ساحة الشمال مكاناً للدفاع عن الثورة ضد فلول الملكيين وقاعدة لانطلاق النضال الوطني من أجل تحرير الجنوب من البريطانيين والذي تتوج بقيام ثورة 14 أكتوبر 1963 التي وضعت مقاومتها المسلحة البريطانيين أمام الأمر الواقع ليحمل العجوز البريطاني عصاه ويرحل عن اليمن يوم 30 نوفمبر 1967 ليفتح الباب على مصراعيه أمام إعادة توحيد اليمن.
الترابط المصيري
إن هذه المقاومة الباسلة التي قدم فيها الشعب اليمني آلاف الشهداء على مذبح الحرية قد أنهت الوجود البريطاني في اليمن برحيله عن أرضه الطاهرة يوم 30 نوفمبر 1967، وإن هذا اليوم لم يكن يوم نصر يمني فقط، وإنما كان يوماً استعادت فيه الأمة العربية بعضاً من هيبتها وكرامتها التي جرحتها نكسة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، كما أن هذا اليوم يمثل مرحلة مهمة من مراحل الثورة التي بدأت في 26 سبتمبر 1962 لتكون شاهداً على الترابط المصيري في معارك الدفاع عن الثورة والنظام الجمهوري في شمال الوطن والتحرير من النظام الاستعماري في الجنوب، وأهمية هذا الترابط في القضاء على نظام الإمامة والاستعمار البريطاني وفي إعادة توحيد اليمن الواحد بخطوات متتابعة انتهت بقيام الوحدة اليمنية يوم 22 مايو/آيار 1990 بقيادة الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح علي عبد الله صالح وأمين عام الحزب الاشتراكي علي سالم البيض.