من العبارات العالمية الشهيرة المميزة، تلك التي تقول إن "الدين ظهر لأول مرة، عندما التقى أول انتهازي بأول مغفل"، وبصرف النظر عن التعميم الكاريكاتوري الساخر الذي تنطوي عليه، ولا تتعلق بالدين القويم بقدر ما  هي حكمة عبقرية كاشفة للغاية فيما يتعلق بأول مزاوجة بين الدين والسياسة.
 
لا أحد يدري متى بدأ الأمر. لكن الظاهرة حاصلة منذ بداية التاريخ، كما هي ماثلة اليوم، في العالم الإسلامي على الأقل: رجال دين شرهون على الدنيا ويخدرون الناس بالآخرة، وجماعات دينية جشعة يمكن أن تحرق كل شيء في سبيل الوصول إلى السلطة.!
 
والمشكلة، بطبيعة الحال، ليست في الدين. الدين، أي دين، يمكن أن يكون عنصر وحدة واستقرار، وهو في أغلب بلدان العالم، جزء جوهري من وعي وثقافة وشخصية الفرد والمجتمع، وأحد أهم عوامل الاستقرار والتماسك الاجتماعي، ويمثل أحد أهم روافد الفضيلة والأخلاق والقيم النبيلة.
 
كما أن المشكلة ليست في التدين، أغلب المتدينين في العالم ملتزمون في أغلب الحالات. بإيمانهم كعلاقة فردية شخصية بالإله أو الآلهة، ولا تضر بالآخرين.
 
 المشكلة دائماً هي فقط في "الدين الانتهازي" ويتكون هذا من طرفين: "الانتهازي" كطرف اتخذ من الدين الذي وجد أصلاً من أجل "السيطرة على النفس، وسيلة للسيطرة على الآخرين". وهذه هي "الانتهازية" المقصودة في العبارة أعلاه، وهي حاضرة، أو حضرت سابقاً، وبدرجات متفاوتة، في معظم أديان العالم.
 
الطرف الآخر هو "المغفل"، ويتجلى بشكل فج في البسطاء والسذج وحسني النوايا، وعموماً بالمتدينين بشكل عاطفي غبي بحيث يمكن استدراجهم من خلال الله والدين، لخدمة أشخاص أو جماعات ومشاريع انتهازية.
 
تنطوي الانتهازية بالضرورة على جعل الدين أشبه "بحصان طروادة"، الهدية التي تسلل داخلها الإغريق إلى داخل اسبارطة، وفجروها من الداخل، وهكذا بالضبط تسلل كثير من الدعوات والمشاريع الدينية المشبوهة إلى اليمن، أو تكونت فيها، قديماً وحديثاً. 
 
قبل ألف عام قال أبو العلاء المعري (363 : 449 هـ) في رائعته "رسالة الغفران": "وما زال اليمن منذ كان، معدناً للمتكسبين بالتدين، والمحتالين على السحت بالتزين. وحدثني من سافر إلى تلك الناحية، أن به اليوم جماعة كلهم يزعم أنه القائم المنتظر، فلا يعدم جباية من مالٍ، يصل بها إلى خسيس الآمال".
 
للأسف. ما تزال اليمن في الألفية الثالثة. هكذا، كما وصفها المعري في عصره. بيئة خصبة لتكاثر الانتهازيين، وفضلاً عن الدجالين، والأنبياء الزائفين الذين يعلنون عن أنفسهم بين فينة وأخرى، لدينا جماعة كهنوتية استحوذت اليوم باسم الله والرسول على السلطة، وتمارس السحت والجباية بأشره صورها.
 
الظاهرة أكبر وأقدم من التجربة الحوثية، وهي الثغرة التي تسللت منها مختلف جماعات الإسلام السياسي إلى اليمن، بداية بالأئمة الزيديين، وصولاً إلى طموحات كل الدعوات الدينية الوافدة والتي جميعها تشترك في بروباجاندا إعلامية سياسية واحدة هي التذرع بالمشاعر والشعائر والشعارات الدينية، وترديد الأحاديث النبوية في مدح أهل اليمن،  باعتبار اليمن بلد الإيمان والحكمة، والشعب اليمني شعب متدين أصيل محافظ نقي بريئ طيب. هويته إيمانية، وخلق فقط ليؤمن وينصر الدين.
 
معظم اليمنيين يتعاملون مع هذه الصفات وغيرها مثل "أرق قلوباً وألين أفئدة" باعتبارها من باب المديح، ويطربون بسماعها حد الثمل، ونسيان أنفسهم وتاريخهم وواقعهم الطافح بكل الأشكال والإشكاليات النقيضة.!
 
والحقيقة أن اليمنيين بشر كغيرهم من الشعوب، والعاطفة الساذجة، هي نقطة ضعفه، الشخصية اليمنية ضعيفة أمام المدح والإطراء والثناء. خاصةً المدح الديني والقومي. ما يمكن معه القول إن المدح هو مفتاح هذه الشخصية المعقدة، والإيمان الأعمى هو نقطة ضعفها القاتلة. مثل "كعب آخيل" في الميثولوجيا اليونانية. 
 
أما الإسلام نفسه، فقد حرص منذ البدء على التحذير من الإيمان الأعمى الغبي، لكن في مقابل الأحاديث النبوية ذات العلاقة مثل قول النبي (ص): "المؤمن كَيِّسٌ فطن"، وقوله: "لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين"، يبدو أن الإيمان في اليمن يجرى وفق مقولة صاغها انتهازيٌ ما، ونسبها إلى ابن عمر، وهي: "من خدعنا بالله انخدعنا له".. وهكذا لُدغ الشعب اليمني من نفس الجحر عشرات المرات.!

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية