يوم الوعل اليمني
عزم ثلة من الناشطين اليمنيين المؤيدين والمنتمين والمتحمسين لحركة القومية اليمنية "أقيال" على إحياء يوم 22 يناير من العام الجاري، الموافق "8 ذو الدثاء 2138" في التقويم اليمني الحميري القديم تحت مسمى "يوم الوعل اليمني"، كاستعادة هُوياتية لرمزية تاريخية وحضارية تتعلق بما كان يحظى به هذا الحيوان من أهمية ومكانة، حيث توارد ذكره في كثير من النقوش السبئية والحميرية عامة، وهذا التأكيد ناجم عن تلك السمات الفريدة التي ميزت هذا الكائن الرمزي من قوة وثبات وكاريزما تشير في مجملها إلى أنفته وشموخه وكبريائه خلافاً لباقي الكائنات البرية.
ومنذ أن شاعت فكرة القومية اليمنية "أقيال" التي تهدف بشكل عام إلى تأسيس وعي جمعي يُعنى بالحضارة اليمنية القديمة، والتي تصورها بعض المنظّرين المهرطقين أنها معادل موضوعي للفكرة السلالية العنصرية التي يتكئ عليها المد الحوثي الجارف لهوية اليمن وعراقته، بينما هي في الحقيقة مجرد تكفير عن ذنب الإهمال والغفلة التي غيمت على وعينا التاريخي والحضاري ردحاً طويلاً من الزمن، وحين داهمنا ناقوس الخطر استشعرنا ذلك المجد وتلك الهُوية التي كان من المفترض أن تكون حاضرة في ثقافتنا اليمنية، كتاريخ وعلم وجزء أصيل في بنية الثوابت الوجودية الرابطة بين الفرد اليمني ووطنه؛ كونها حضارة أصيلة وأساسية ما زالت آثارها شاهقة في الجغرافيا اليمنية.
إنه بعث للنقوش اليمنية التي أُهملت وقد كانت هي الوثائق الرسمية عن الحضارة اليمنية القديمة، فقديماً كان الهمداني آخر العارفين بأسرارها ومقاصدها بعد أن ابتلعتها العربية الفصحى وأقعدتها عن الاستخدام في الكتابة، وتحولت إلى أطلال كما جاء ذلك في البيت الشعري الشهير لامرئ القيس بن حجر الكندي بقوله:
لمن طللٌ أبصرته فشجاني
كخط زبور في عسيب يماني
وقد ظلت لغة النقوش اليمنية ميتة حتى بعثها واكتشفها العلماء الغربيون في العصر الحديث، فككوا رموزها وقواعدها وكل ما يتعلق بها من قريب ومن بعيد، وكان لليمنيين إسهام متأخر في علم النقوش اليمنية بزعامة القاضي زيد عنان ومطهر الإرياني، وأكاديمياً ظهرت أسماء مثل (يوسف محمد عبدالله، عبدالله الشيبة، إبراهيم الصلوي)؛ لكنها أسماء قليلة، فلم تحظ النقوش اليمنية القديمة بمساحة كافية في المقررات الجامعية والمدرسية، باستثناء تخصيصها كمادتين لطلاب قسم التاريخ واللغة العربية، وهذا ينم عن إخفاق في تقدير الأهمية الوطنية إزاء تاريخنا وحضارتنا، الذي تذكرناه للتو فجأة، ونرغب في بعثه وترويجه دون أدنى معرفة بعالم النقوش ومضامينها شكلاً وموضوعاً، فترى الجميع يتمظهر بتدوين اسمه في وسائل التواصل بخط المسند بطريقة خاطئة لا تلتزم بالطريقة السليمة للكتابة المسندية.
وقد يستفز المتخصص أو الدارس لهذه الحضارة ذلك الموج المتحمس والمتفاعل مع إحياء الهوية اليمنية بدءاً بخط المسند وإطلاق التسميات للأيام والاحتفاء بها، فمن ناحية يمكن اعتباره إيجابياً؛ إلا أنه ينبغي وضع رؤية متكاملة لتفعيل هذا المسار وتنشيط أهدافه، والاستعانة بمتخصصين، والدعوة لإدراجه في المقررات المدرسية والجامعية، وتحفيز البحث العلمي في هذا المجال وتخصيص دوريات شهرية وفصلية تُعنى بتاريخ النقوش من حيث شكل الكتابة وقواعدها ومضامينها التي يمكن استحضارها والاستفادة من أمجاد أجدادنا في بناء الحضارة والعمران.
ومن باب الأمل والتفاؤل، فإننا نتمنى أن يشكل هذا التدافع المتدفق والشعور المتزايد والشغف الكبير تجاه الحضارة اليمنية القديمة بادرة فعالة ومنهجية تسعى لإثراء المشهد الثقافي والفكري في اليمن بنتاج معرفي تاريخي يستوحي عبقرية الإنسان اليمني قديماً، وقدرته الفذة في تكوين حضارة مبنية على أسس وأنظمة دقيقة في السياسة والزراعة والري والعمران وإدارة شؤونه الدينية، وحرصه الشديد على تخليد ذلك النمط من السلوك الراقي عبر كتاباته بخط المسند والزبور، وهو كنز عظيم تفتقده اليمن، وبينما تحتفظ به كُبريات المتاحف العالمية منذ قرون، انقطعت صلة اليمني به منذ عقود، وفي ليلته الظلماء تذكّره بشغف وأسى.