في ذكرى أكتوبر .."الفن/ الثورة".. ثنائية لفجر يمني متجدّد تتهاوى أمامه الظلماء
للفن دوره الكبير والمهم في إيقاد شرارة الثورة، وإشعال جذوتها في رماد الفينيق الشعبي، لينهض ويستعيد أجنحته، ولاءه التي تحاول الأنظمة الاستبدادية والاحتلال، إسكاتها، ويبث روح الحرية في صدور الشعب، ليبدّد الظلام ويزلزل عروش الطغاة، ويتنفس نسيم الفجر العليل.
أنا الشعبُ زلزلة ٌعاتية.. ستخمد نيرانَهمْ غضبتي
ستخرس أصواتَهمْ صيحتي..
أنا الشعبُ عاصفةٌ طاغية
كلمات مفعمة بالثورة والوطنية، والتوق لنيل الحرية، أطلقها الشاعر علي عبدالعزيز، وخلّدها الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، في الذاكرة الثورية الجمعية، فكانت عاصفة تقف جنبًا إلى جنب مع الثوار، تقتلع الاستعمار البريطاني في جنوب الوطن الحبيب، كما تم إسقاط الحكم الكهنوتي الإمامي البغيض شمال الوطن، في الثورة الخالدة 26 سبتمبر و14 أكتوبر.
استطاع المرشدي بأغنيته "أنا الشعب"، إيقاد روح الثورة والنضال والحماس لدى اليمنيين في جنوب الوطن، حيث حركت الجموع ضد الغزاة البريطانيين الذين خرجوا مدحورين على أيدي الأبطال في 30 نوفمبر 1967م، وذلك بعد اندلاع ثورة الـ14 من أكتوبر المجيدة في العام 1963م.
الفن والثورة وجهان للحرية
لا يمكن لأي شيء أن يمحو ذكرى ثورة عظيمة صاحبتها أغنية ثورية تغلغلت في الوجدان الشعبي، فتخلّقت من خلالها أجيال تؤمن بأهداف الثورة، وتتغنى بها، وتجعل منها وقودًا ثوريًّا، في كل ذكرى تطوي عامًا جديدًا على مرورها، وقد ترافقت ثنائية "الفن والثورة" على امتداد عقود من الزمن في اليمن.
ونحن نحتفي اليوم، في كل ربوع الوطن، شمالًا وجنوبًا، بالأعياد الوطنية "26 سبتمبر و14 أكتوبر و30 نوفمبر"، ليس ثمة من ملاحم فنية خالدة كتلك الألحان التي عبرت من إرادة ورغبة الثوار والأحرار، ومرّت من فوهات البنادق لصناعة واقع جديد بالكلية على سابقهِ من عهودِ الظلام والقهر والعبودية، وهي ذاتها الأغاني التي يرددها اليمنيون اليوم، استذكارًا للماضي الذي يصر على العودة، ويعبّرون بها عن رفضهم ورغبتهم في الانعتاق من براثن الإمامة الكهنوتية التي تحاول أن تجثم مجدّدًا على صدورهم وصدر اليمن الحبيب.
تعزيز الروح الوطنية
لقد ساهمت الأغنية اليمنية منذُ وقت مبكر، في جبهات النضال، معززةً الروح الوطنية، لدى الجندي في ثكنته، والموظف في مكتبه والطالب في مدرسته والفلاح في حقله، دافعًا معنويًا، وزادًا روحيًا، أوقد الروح الثورية في نفوس كل أبناء الشعب على امتداده شمالًا وجنوبًا.
نعم.. لقد تشربها جيل سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر، ولا تزال الأغنية اليمنية الثورية تمثل ينبوعًا للأجيال القادمة، وإلهامًا وقادًا للروح التواقة إلى الحرية والكرامة، وإشعالاً لتلك النفوس الممتلئة بحب الوطن.
صوت المرشدي معلنًا: "أنا فدا السّلال بكر ينادي، من الحسن والبدر حرر بلادي"، أطرب الشعب بفرحةٍ غامرةٍ بتحقيق ثورته الـ26 من سبتمبر المجيدة 1962م، التي قضت على نظام إمامة كهنوتية أذاقت الشعب طيلة عقود من الزمن، الذل والمهانة.
ظلت الأغنية اليمنية التي كتبها وشدا بها عظماء سخّروا فنهم سلاحًا لا يقل أهمية عن سلاح الجندي في معركة الحرية والكرامة، ضد من أرادوا الشر للبلد وأبنائه، ولا يزال صداها يقارع جحافل أعداء البلد حتى اللحظة.
أطل فجر الحرية، وهو يهتف ومعه الشعب اليمني، شمالًا، مع علي بن علي الآنسي "لبيك يا يمن الحضارة والخلود.. لبيك يا رمز البطولة والصمود"، ويتمايل مع أوتار الحارثي "هذه أرضي وهذا وطني سوف أفديه بروحي ودمي"؛ ويرد الصدى جنوبًا، مع الفنان الكبير محمد عطروش "برع يا استعمار برع".
بالفخر ذاته لم يزل الإنسان اليمني يشدو بأغنية إبراهيم طاهر "أنا يمني"، واسأل التاريخ عني أنا يمني".. ويرفع العلم في سماء لا تدانيها سماء، على صوت الوطن وثورته، الفنان العظيم أيوب طارش: "رددي أيتها الدنيا نشيدي، ردديه وأعيدي وأعيدي"، وتهتف الأرض اليمنية المعطاءة: "املأوا الدنيا ابتسامًا، وارفعوا في الشمس هامًا.."، وتصدح: "دمت يا سبتمبر التحرير يا فجر النضال" مع كل إشراقة لعيد السادس والعشرين من أيلول المجيد.
وكما كانت الأغنية طلقة في نعوش الطغاة؛ كانت منارة في صدور اليمنيين، تشع بالحب للوطن، فكان فنان اليمن أبو بكر سالم بلفقيه، يعزف خيوط ضوء شمس الوطن الممتدة جذوره في أعماق التاريخ، بأغنيته: "من يشبهك من؟؟ أنت الحضارة، أنت المنارة، أنت الأصل والفصل.. أمي اليمن"، وبذات الشموخ اليمني الأصيل، تبزغ ابتسامة الأرض على معزوفة عبدالرب إدريس "هذي اليمن".
في فجرنا اليمني المغمور بالحب للوطن والإصرار على الحياة الكريمة والرفض لكل ما ومن يحاول المساس بالأرض الخضراء، يردد الكون والكائنات مع كرامة مرسال "على شاطئ الذكريات التقينا لنحكي حكايات شعب مجيد"، ويتساقط الندى على صوت الفنانة أمل كعدل "بلادي أحبك فلتسلمي"، وبأنغام الموسيقار أحمد فتحي "ها قد شمخت يا بلادي فوق هامات القمم".
لقد أبدع صناعُ الأغنية اليمنية من شعراء وفنانين في تعزيز الهوية الوطنية، لتكون هذه الأغنية الثورية رافدًا ثقافيًا وروحيًا يحفظ للشعب هويته وتاريخه.