يجسّد الطفل حمود باسم، من أهالي محافظة تعز، حال الطفولة؛ بل حال البلد بأكمله منذ نكبة 21 سبتمبر، التي أغرقت اليمن في ظلام دامس وأحالت كل شيء فيه إلى جحيم مقيم.. خرج، ذات يوم من أيام الحرب الملعونة والمستمرة، للعب مع أقرانه بجوار المنزل بمنطقة بئر باشا غرب تعز، دون أن يدرك، حينها، أنها ستكون آخر مرة يغادر برجلين وأنه سيفقد إحداهما للأبد، ويفقد معها طفولته وحياته الطبيعية. 
 
ذلك اليوم المشؤوم، عمدت مليشيا الحوثي إلى الاستهداف المباشر للمناطق المدنية والأحياء بمدينة تعز؛ وكان أحد ضحاياها الطفل حمود الذي كان له منزل صغير يؤويه وأسرته، وأم في انتظاره ووالد يعمل في أحد المصانع، استأذن الطفل حتى يخروج للعب، وبعد نصف ساعة من مغادرته المنزل سمعت الأم صوت انفجار هز المنزل.. تقول والدته لوكالة "2 ديسمبر": هرعت خارجاً للبحث عنه ووجدت حذاءه وبقايا لا أعلم ما هي، كنت أصرخ وأبحث عنه برغم أن القذائف الحوثية كانت لا تزال تتساقط على الحي. 
 
نقل والد حمود ابنه على الفور للمستشفى القريب الذي وجده مزدحماً بالجرحى، تروي أم حمود الحادثة بكثير من الدموع والألم: "مثل كل مستشفيات تعز ما كانوا يستقبلوا أحد ما كان باقي إلا مستشفى الثورة، ووقتها كان في قصف وقنص لبابه، وقدرنا نوصل للثورة والقناص يقنص وحتى تم قنص أحد المسعفين وهو حامل حمود للداخل".
 
عاش حينها سكان المدينة رعباً حقيقياً واستهدافاً متواصلاً كما تروي الممرضة أمل عبدالرحمن: "كنت حينها أعمل في مستشفى الثورة، وكان الوضع مأساوياً، وجزء من المستشفى مكشوف للقناص ولا نستطيع الوصول للجهة الأخرى، والجرحى يصلون من أماكن الاستهداف والكثير من الطاقم وحراسة المستشفى مصابين بالأصل، وأكثر ما كان يحزن هو وضع الأطفال الذين يصلون إما موتى أو مبتوري الأطراف، ولو عُرض ما حصل لنا في تلك الفترة كفيلم سينمائي لن يصدقه الكثير، من فرط ما حصل من أحداث لا يستوعبها عقل، وكان قادراً على فعلها صواريخ الحوثيين وقناصوهم". 
 
ظلت والدة حمود بحدود الشهر تسهر وتنتظر إفاقة ابنها؛ ولكن عندما أفاق أدرك أن رجله بُترت. تقول أمه: "على طول ركز وكان يبكي ليل نهار يشتي رجله ترجع، ويقول "رجعوا لي رجلي"، وكان الطفل حينذاك لا يستطيع الحركة بسبب بقايا شظايا سكنت قرب عموده الفقري، فأُجريت له بعد ذلك عدة عمليات حتى تمكن من الوقوف ثانية". 
 
تشرح أم حمود: "بدأنا رحلة شاقة ومتعبة للبحث عن بدائل لرجله، وساءت أوضاعنا الاقتصادية وفقدت منزلاً كنت أستأجره بسبب ارتفاع الإيجار وفقد زوجي عمله". 
 
وتضيف: "يا ليت ما كان جاء لنا حوثي، كانت حياتنا مستقرة وابني بصحة وسلامة، الآن ليل نهار ادعي على الحوثيين". 
 
هب بعد ذلك كثير من "المخادعين"، بحسب وصفها، وتم تصوير حمود، "صوره أكثر من شخص وكانوا يعملوا تبرعات ولم تصل لنا أي مبالغ"! 
 
وتتهم والدة حمود الكثير من الجهات بالمتاجرة بمعاناة ابنها حتى أنها رفضت لاحقاً التجاوب مع أي جهة تطلب أوراق ومستندات المعاينة وصوراً لرجله. 
 
بحزن وألم كبيرين تقوم الأم: "عند القصف كان حمود في عمر السادسة وأصبح الآن بعمر الثانية عشرة، وبدأ يستوعب أنه ينقصه رجل، وكونه في طور النمو ويكبر لا بد من تغيير رجل صناعية له كل ستة أشهر لكن والده لا يستطيع دفع تكاليفها". 
 
تحملت الأسرة جراء هذا تكاليف أثقلت كاهل الأب وغمرت الأم بالحزن، وقلبت حياتهم، وفاقمت معاناتهم. 
 
ينكبّ حمود على دفاتره وكتبه للتحصيل العلمي؛ لكنه يمتنع عن حضور الدروس في المدرسة، فحمود يعيش أوضاعًا نفسية صعبة، بحسب والدته. 
 
لم يتقبل إعاقته وتحول لطفل مسكون بالقلق والدموع لا يجيب على الحديث وتتكفل والدته بحق الرد عنه، ولا يفضل الحديث مع الغرباء ولا يغادر الغرفة إلا نادراً، تحاول والداته إقناعه بالخروج إلى أمام المنزل لكنه حتى وإن خرج لدقائق يقوم بمهاجمة أي طفل يمشي ويعود على الفور. 
 
تصف الأم الحال التي وصل إليها طفلها: "يتهمني دائماً بمحبة إخوته وتفضيلهم عليه، ويقول أنا مافيش معي رجل ليش تحبينا!". 
 
لم تستطع أمه إقناعه بحضور المدرسة القريبة؛ ما دفعها للقيام بتعليمه كل المواد الدراسية، ويذهب أيام الاختبارات فقط، ويجبر أمه على ربط الساق الصناعي لرجله برغم قصرها وإلباسه ملابس طويلة تخفي أنه مبتور. 
 
يفضل حمود دوماً ألا يعرف أحد بإصابته، ويهاجم إخوته بأرجلهم، كما تقول أمه، مضيفة: "قبل أيام أخذ موقد حق الفحم ولسع والده برجله وقال له وهو يضحك شوف كيف الرجل توجع". 
 
معاناة حمود واحدة من حكايات كثيرة لطفولة أهدرتها حرب المليشيا المدعومة إيرانياً، وأطفال فقدوا أغلى ما لديهم، دون أن يجدوا من يقف إلى جوارهم ويتحمل مسؤوليتهم، في ظل ظروف اقتصادية سحقت أسرهم، ولم تترك لهم مجالاً لفعل شيء حيال أبنائهم.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية