ملف حصار تعز| الحنين للتلاقي يكوي عائلات شتت الحصارُ شملها (الحلقة 2)
بعد أن استكمل الشاب عصام قائد (19 عاماً) التنسيق في إحدى كليات جامعة تعز تردد كثيراً في العودة إلى قريته الواقعة في إحدى عزل مديرية شرعب السلام، وفضل والبقاء في المدينة منتظراً أن يحين موعد الدراسة الجامعية، رغم متطلبات البقاء في المدينة من مصاريف؛ لكنها في نظره أهون من العودة إلى قريته وتحمل عناء السفر عبر الطرق البديلة وأجرة المواصلات الباهظة والمخاوف التي صنعتها ممارسات نقاط مليشيا الحوثي في نفسه.
يقول عصام متحدثاً لوكالة "2 ديسمبر"، إن الطريق طويل وخطر وكثير الحوادث وعرضة للسيول والانهيارات الصخرية وغيرها من المخاطر التي تكتنف السفر عبر تعرجات جبلية شاهقة قد تكون في بعض الأحيان مقصداً للموت، ومغامرة غير مأمونة العواقب، في ظل استمرار المليشيا للعام الثامن على التوالي بإغلاق الطرق الرئيسة المؤدية من وإلى مدينة تعز.
كثيرون من سكان تعز يشاركون عصام نفس الهواجس والمخاوف، وقد أجبرهم الحصار وإغلاق الطرق الرئيسة وعذابات الطرق البديلة وممارسات نقاط المليشيا المنتشرة فيها على إيثار البقاء في المناطق المحررة، سيما مع ما يصل مسامعهم من قصص مأساوية لأناس اختطفتهم مليشيا الحوثي من الطرقات وألقتهم في غياهب السجون أو قتلتهم.
الحنين للماضي
وعمّق الحصار حجم المأساة الإنسانية في مدينة تعز، إذ أحدث تدهوراً كبيراً على مختلف المستويات، وأوقف تدفق أغلب إمدادات الغذاء والدواء والوقود والمياه وغيرها من مقومات العيش والبقاء، كما أحدث شرخاً في النسيج المجتمعي نظراً لحرمان آلاف العائلات من التزاور كما هو الحال مع الموظف الحكومي محمد عبد المعز (58 عاماً) الذي تعوّد في سنوات ما قبل الحرب على اصطحاب زوجته وأطفاله والخروج في جولة إلى أطراف المدينة للقاء أهله وهو ما لم يعد ممكناً اليوم.
يقول عبد المعز لـ"2 ديسمبر"، إن السكان منذ 8 سنوات يكتوون بنيران الحصار وإغلاق الطرقات من قبل مليشيا الحوثي، "حتى إنني وعائلتي نشعر أننا نعيش في سجن كبير، يضيق بنا ويتسع لأخبار الموت والدمار والحزن الذي ترسله لنا المليشيا بشكل شبه يومي".
ويحن المسن عبدالله سعيد لسنوات ما قبل إغلاق الطرقات بما فيها منفذ الحوبان والذي كان بالنسبة له متنفساً أسبوعياً يمر منه إلى شرق المدينة ليصلي في جامع الجند أو يتوجه بين الحين والآخر في جولة عائلية نحو محافظة إب، مؤكداً لـ"2 ديسمبر"، أن الحصار قيّد حركة المواطنين وخنق السكان وسجنهم في مربع ضيق وحرمهم حقهم في التنقل والحركة.
كان العبور في الطرق الرئيسة المغلقة اليوم من قبل مليشيا الحوثي لا يتطلب أكثر من 10 دقائق انطلاقاً من مركز المدينة إلى الحوبان أو مفرق شرعب، بخلاف السفر عبر الطرق البديلة اليوم لأكثر من ثماني ساعات يقطع فيها المسافرون على متن سيارات رباعية الدفع قرابة 132 كيلومتراً وسط أهوال ومتاعب هذه الطرق.
وأد مظاهر الفرح
ومن أهم الطرق البديلة التي يسلكها المسافرون طريق الأقروض في مديرية صبر جنوباً، وطريق جبل حبشي غرباً، وطريق ثالث يمر بمديرية سامع جنوباً ويستخدم الطريق الأخير في حال إغلاق الطريقين السابقين، حيث يدفع المسافرون تكاليف كبيرة مقارنة بمبلغ زهيد لا يتعدى مئتي ريال مقابل الوصول إلى الحوبان أو مفرق شرعب عبر المنافذ الرئيسة المغلقة من قبل المليشيا الحوثية.
ويصعب على الموظف الأربعيني مجيب فرحان تقديم مساعدات مالية لوالدته المقيمة في أحد الأرياف بسبب سوء أوضاعه المادية والانقسام المصرفي والذي يدفعه أحياناً نحو تحويل العملة النقدية الجديدة في داخل المدينة إلى الريال السعودي بسعر مضاعف وإرسالها لأمه المقيمة في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي.
يقول الشاب ماجد الشرعبي لـ"2 ديسمبر"، إنه مكلوم بالألم لعدم قدرته على زيارة والدته في أحد أرياف شرعب ومشاركة أسرته مراسم زفاف شقيقته. وتابع: "صادر الحصار مظاهر الفرح وقلل من فرص الابتهاج وحال دون صلة الأرحام وزيارة الأقارب"، كما أن ممارسات نقاط مليشيا الحوثي في الطرق البديلة والتي اُحتجز فيها سابقاً تحول دون قدرته على الانضمام إلى مراسم الفرح في مسقط رأسه.
سنوات من البُعد
وأدى استمرار الحصار إلى غياب أبسط الخدمات الأساسية، كما زاد من افتقار سكان المدينة للمتنفسات وأماكن الترفيه، وضيق الخناق على سكان المدينة وأعاق وصول عشرات الآلاف إلى مصادر رزقهم، كما شتت وجهاتهم وأغرقهم بالكثير من الهموم وأنهك قدراتهم الشرائية وجعل تفكيرهم منصباً على توفير القوت الضروري وتأمين وجبات متواضعة لسد رمقهم مع أسرهم.
وقال الناشط فيصل العسالي لـ"2 ديسمبر"، إن الحصار جعل من مهمة توفير لقمة العيش شاقة جداً، كما سرق بهجة الأعياد والمناسبات ومنع لقاء الكثيرين بأهاليهم في مناسبات دينية واجتماعية، وأثر على طريقة إحيائها وأفقدها مذاقها ولونها المعتاد لدى الناس في سنوات ما قبل الحرب والحصار الذي فرق الأهل وضاعف أجور المواصلات وجعل من السفر عبر الطرق البعيدة والخطرة والمتهالكة أمراً مستحيلاً.
وتبدو تداعيات الحصار أكثر قسوة ومرارة بالنسبة للأستاذ الجامعي ماجد الجعفري الذي يقيم في مدينة تعز مثقلاً بالحنين للقاء أمه وأبيه وبقية أفراد أسرته المقيمة في إحدى القرى الخاضعة لسيطرة مليشيا الحوثي، وقد مضت سنوات من البعد وهو يترقب موعد اللقاء الذي لم يحن بعد نتيجة استمرار الحصار الذي "سلب الحياة الكثير من رونقها ومظاهر بهجتها وجعلها مجردة من قيمتها ومعناها الحقيقي وزاد من نسبة الشقاء والعناء والعزلة والاغتراب والحسرة"، على حد قوله.