د.صادق القاضي يكتب ل"2 ديسمبر": قصة مرتزق بريطاني في اليمن
شهدت اليمن خلال ما عُرف بحروب الثورة في ستينيات القرن الماضي، استقطابات داخلية وإقليمية ودولية واسعة، ومدت القوى الدولية الداعمة للإمامة الآفلة، الإمام المخلوع بمرتزقة محترفين من معظم الدول الغربية، لمهمات التدريب والتخطيط والقتال ضد قوى الثورة والنظام الجمهوري الوليد في اليمن والقوات المصرية الداعمة.
من أبرز أولئك المرتزقة، "ديفيد سمايلي"، أو "داود اسماعيل"، كما كان يحلو لبعض اليمنيين مناداته، كان مرتزقًا نوعيًا، ومن أفضل المرتزقة إن كان في المسألة مفاضلة، فربما لن تجد مرتزقًا آخر أكثر وعيًا ومكاشفة بطبيعة عمله، ودقة وبراعة في التعبير عنه من هذا الكولونيل البريطاني، وبالشكل الذي يعكسه كتابه "مهمة في الجزيرة العربية".
الكتاب قصة شائقة عن نشاط سمايلي خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مرتزقاً مع الأنظمة ضد العصابات والمتمردين، ثم مع العصابات والمتمردين ضد الأنظمة، في أكثر من دولة في الجزيرة العربية.
سمايلي وشرف الارتزاق:
وكمرتزق لم يجد صفة أخرى ليعبّر بها عن طبيعة عمله، لم يستنكف سمايلي عن إطلاق هذه الصفة على نفسه وزملائه، بل يصف نفسه بقائد المرتزقة؛ لكن، ورغم كل شيء، يمكن ملاحظة أن الرجل كان يتحسس في أعماقه من صفة الارتزاق، بدليل أنه توقف مطولاً ليشرح أبعادها، كمن يرفع الحرج عن نفسه وعنها، مستشهداً بتعريف قاموس اكسفورد للمرتزق: "مقاتل مأجور في خدمة قوى أجنبية"، مشيراً إلى أن هذا المفهوم ينطبق على فرسان رائعين قاتلوا مرتزقة في بلدان بعيدة مثل الجوركا والجنرال جوردون وجلوب باشا، مما يسعده أن يكون منهم.
لا يلبث المؤلف أن يؤكد أن الارتزاق مهنة، وككل مهنة لها شرف، وشرف الارتزاق لديه يتمثل بشيئين:
- الموقف من الوطن.
- والسلوك الشخصي.
في ما يتعلق بالموقف من الوطن، يرى سمايلي أن شرف الارتزاق يتمثل حصريًا بأن يعمل المرتزق لمصلحة بلده، أو على الأقل لا يعمل ضدها، وفي حالته كان يرى أن القتال مع الإمامة يصب في مصلحة بريطانيا، لأن القوى الجمهورية والقوات المصرية في شمال اليمن كانت تهدد المصالح البريطانية في الجنوب.
هذا الأمر قد يلقي مسحة من النبل على نشاط سمايلي، خاصة في حال المقارنة بمرتزقة لا يكتفون بالعمل ضد بلدانهم، بل يفتخرون ببجاحة عن تحويل وطنهم إلى مجرد قطعة من لعبة دولية، كمقاطعة تابعة لدولة أجنبية، وأداة لتحقيق أجندة دول أخرى.
من ناحية السلوك، يشير المؤلف إلى أن سلوك المرتزقة في بعض المناطق شوّه سمعة الارتزاق، بما قد يلفت النظر إلى سلوك بعض الجماعات الدينية الحالية في اليمن: الجماعة الحوثية ، حيث اللصوصية بأحط صورها، والجريمة بأبشع أشكالها، والنزق واللا أخلاقية جزء من الروتين اليومي لهذه الجماعة.
عندما عُرض على سمايلي العمل مرتزقاً في اليمن، رحّب بالدعوة بحماس، فقد سئم العمل في بيع الوجبات النمطية في مطاعم «جروبي» في لندن، منذ عودته من عمان. كان يعرف أن الطعام في اليمن أكثر خشونة حتى من طعام مسقط؛ لكنه لم يكن يطلب الرفاهية، لقد قبِل العرض فقط لأنه يلبّي حاجته للمال والمغامرة.
كان سمايلي قد راكم خبرة عالية، ومعرفة عميقة بالشؤون العسكرية، من دراساته الأكاديمية، ومشاركاته العديدة في الحرب العالمية الثانية، وعمليات عسكرية كثيرة في ألبانيا وسيام، والملحقات العسكرية في بولندا واستكهولم، وبإضافة سنوات أخرى من القتال في عمان، يكون سمايلي قد جاء إلى اليمن متذرعاً بخبرة نوعية عالية، جعلته على علاقات مباشرة مع الصف الأول من حكام المنطقة، وقيادات الصف الملكي في اليمن.
كان أول من قابله سمايلي من القيادات الإمامية أحمد الشامي، وزير الخارجية اليمني، للصف الملكي، ثم الإمام البدر، والأمير الحسن، ولي العهد رئيس الوزراء، والأمراء: عبد الله بن الحسين، والحسن بن الحسن وأخاه عبدالله بن الحسن، وبقية الأمراء الذين كانوا في القيادات الميدانية للقوى الإمامية المسلحة.
كان سمايلي خبيرًا عسكريًا ذكيًا نشطًا، زار كثيراً من المناطق اليمنية التي تتمركز فيها القوات الإمامية، وكان يرصد بدقة نقاط الضعف لهذه القوات، ويقدم نصائحه للملكيين بشأن تجاوزها وتفعيل أعمالهم ضد القوات الجمهورية والمصرية. وبالرغم من طبيعة عمله الميداني، كان على وعي كامل بالأبعاد السياسية لتلك الحروب، وأن لكل من القوى الإقليمية والدولية أجندة خاصة لتدخلها في اليمن، بغض النظر عن التصريحات المعلنة.
خلال خمس سنوات قضاها سمايلي في اليمن، جرت في النهر مياه ودماء كثيرة، هُزمت مصر في حرب 67، واضطرت لسحب قواتها من اليمن، وهذا أضعف الجانب الجمهوري؛ لكن إصرار وتضحيات غالبية الشعب اليمني، والتفافهم حول قياداتهم الوطنية، وانحيازهم المطلق للنظام الجمهوري، وإيمانهم العميق بعدالة قضيتهم.. كان نقطة قوتهم الجبارة التي جعلت عودة الإمامة نزقًا ظلاميًا ميئوسًا منه.
وهكذا غادر سمايلي اليمن، وفي جيبه مبلغ كافٍ لشراء مزرعة في إسبانيا، استقر مع عائلته فيها، وفي رأسه قصة مغامرات دوّنها وأصدرها في كتاب بعنوان «مهمّة في الجزيرة العربية»، هذا الكتاب مهم، ليس فقط باعتباره مرجعاً تاريخياً للحرب والسياسة في اليمن لتلك الفترة؛ بل إن ملاحظات مؤلفه الدقيقة على العادات والتقاليد والسلوكيات والأزياء والوجبات اليمنية، تمنح الكتاب أهميته كمرجع نوعي في التاريخ الثقافي والإنثربولوجيا، بجانب كونه عملاً مهماً في أدب المغامرة والرحلات.
* «مهمّة في الجزيرة العربية»، ديفيد سمايلي، ترجمة حامد جامع، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، بيروت، الطبعة الأولى، 1989م.
