الحياد ومفاهيم أخرى.. مخطط استقطاب حوثي تكشفه قصة صحفي في تعز
"في البداية لم أفكر بذلك!! أكد لي أن الموقع ليس له أي توجهات سياسية ويلتزم الحياد، وأنه أداة مهنية مهمة لصقل تجربتي الصحفية"، يجيب الزميل "م. ع. ج" على ثالث تساؤلاتي في حديث بدأ عاديا قبل أن يتحول وبشكل هلامي إلى كومة من الألغاز تستدعي الفك.
يعمل "م. ع. ج" كاتباً صحفياً، تخرج حديثاً من قسم الإعلام جامعة تعز، في مستهل التحاقه بالقسم وجد نفسه أمام واقع مغاير لتصوراته الطموحة التي بدأ ترسيخها انطلاقاً من كلية الآداب التي لا تزال تحمل على واجهاتها ومداخلها نتوءاتٍ وندوباً منذ الاجتياح الحوثي الغاشم للمدينة، وما رافقه من استهداف منظم من قِبَل المليشيات للمؤسسات التعليمية، والحكومية عموماً.
أنهى دراسته الجامعية بعد عام من الاجتياح الحوثي لمدينته، غياب الأدوات المعملية من استيديو تجريبي وأجهزة الميديا التي يفترض أنها كل ما سيتعلمه، أعاضها بالتجول في مدينة تعز، المدينة التي أصبحت بفعل الحصار والقصف غرفة إخبارية لنشرات عاجلة، حصاد طازج لحوداث القتل اليومي وغيرها من مسيلات لعاب المواقع الصحفية.
"ليس لديّ أي انتماء سياسي واضح، لهذا لفظتني الكثير من مواقع النشر، أحد تلك المواقع وافق على نشر ما أحرره من قصص إنسانية دون مقابل مادي، قال لي رئيس التحرير: « سنوفر لك مساحة تدريبية لنشر موادك وهي خدمة مجانية وتشجيعية من قبلنا، فيما حقك الفكري مطروح للنقاش».
وافق "م. ع. ج" على العمل في الموقع غير عابئ بحقه المادي، طُلب منه تحرير أخبار وتقارير صحفية لاختبار وتطوير قدراته، وهو ما وافق عليه متعالياً بذلك الإيمان الذي خطه في داخله دم الضحايا الذين زارهم «أنا في معركة وطنية وما من مقابل أكبر من أن أكون جزءاً منها مُحارباً بالكلمة».
يتابع «برجماتية الوسط الصحفي الذي وجدتني فيه لم تثنِني عن المواصلة ولو بدون كيشوتية أحياناً، عملت في إحدى الإذاعات المحلية بمقابل مادي لا يتجاوز الألف ريال فقط عن كل قصة إنسانية».
في أحد مساءات تعز المزبدة بالقصف الحوثي على المدينة تلقى "م. ع. ج" عرضاً مغرياً بالعمل لدى موقع إخباري تحوم حوله العديد من الشبهات والشكوك، الموقع قاده إلى منصات إعلامية ومؤسسات حقوقية تُحاك بمغزل واحد.
«الحياد الذي انتهجه الموقع كان مشجعاً على العمل، فضلاً عن الامتيازات المادية التي يوفرها لقاء كل عمل صحفي».
بحسب زملينا الصحفي، كان عليه أن يجاري سياسة الموقع واشتراطاتهم بإجراء مراجعة سريعة لقاموسه الشخصي، وكذا تبني مفاهيم جديدة تتصف بالحياد، أسدى له أحد زملائه نصيحة مفادها أن قضية تعز وعداءه للحوثي ليست أكثر من مسألة شخصية يجب سلخها عن شخصه الصحفي، كانت سياسة الموقع تلزمه بمغادرة الجموع الرافضة للمليشيات، تقصيه في ركن بعيد عن كينونته كمواطن منفصماً عن المعاناة الجمعية.
«كان عليّ أن استبدل مسمى المليشيات الحوثية بجماعة أنصار الله، وأن أذيبها من مكانها في قائمة الجماعات إرهابية إلى طرف في معادلة نزاع».
يتخلل حديث "م. ع. ج" هنيهات مضطربة من الصمت، كان في صمته توظيف للاندهاش الذي يعيشه من انطلت عليه خدعة ما في لحظة حاسمة.
«كتبت ذات مرة قصة إنسانية وعلى لسان ضحاياها نقلت حجم الجريمة التي خلفها القصف الحوثي، فضلت نشرها في منصة إعلامية ذات طابع حقوقي، حينها كان هناك منصة/ مؤسسة حقوقية واحدة تعمل في تعز وتتبنى سياسة الموقع سابق الذكر، وتفاجأت بمدير المنصة يسألني: هل كنت متواجداً لحظة اطلاق الصاروخ، هل رافقته إلى لحظة السقوط لتعرف هوية الطرف الذي أطلقه؟؟ هل أنت خبير عسكري؟!».
يخلص "م. ع. ج" في نهاية حديثه إلى جملة من الشكوك التي يراها يقينية اليوم، تبدأ من تزييف أخلاقيات العمل الصحفي، إذ يرى أن تعريف تلك المواقع للحياد ليس أكثر من مبضع في عملية تجميل جراحية تهدف إلى تضبيب الحقيقة الإرهابية للمليشيات ومواراتها بصورة اعتبارية وإن بتعميم القبح.
«ينتابني الكثير من القلق حيال أجندة ذاك التوجه الإعلامي الممول، التي لا أشك البتة بتبعيتها غير المباشرة للمليشيات، إنها تفرغ الحماس الرافض في الكثير من الشباب وتعوّمه بمفاهيم خطيرة، من الإغراق في صراعات داخلية إلى مفاهيم ستجر متداوليها، لا شعورياً، نحو التصالح المُبيت مع جرائم المليشيات».
مخاوف "م. ع. ج" وإن بدت استقلابية إلا أنها لا تتطلب أي أدلة أو إثباتات لأن تصبح واقعاً، كما يعتقد البعض، إنما تتطلب استفاقة جمعية في الوسط الصحفي وحالة دائمة من النباهة لمواجهة الأدوات الناعمة لمليشات الحوثي، وعدم التقيّد بالسياسات الفضفاضة على حساب الدماء البريئة وأخلاقيات المهنة ونزاهة العمل الصحفي.