"أجد صعوبة في نسيان ما حدث، وما يزال صوت الانفجار العنيف يوقظني من نومي كل ليلة، لم أتمكن من تجاوز تلك المحنة، رغم مرور أكثر من خمس سنوات على إصابتي بانفجار لغم زرعته مليشيات الحوثي".
يقول ياسر ياسين، وهو يستذكر المأساة التي تعرض لها، وما يزال يدفع ثمن ذلك، حينما قرر إعادة عائلته النازحة في منطقة "الجراحي" جنوب محافظة الحديدة 2017م.
صعد ذلك الشاب على متن سيارته في وادي الرمة شمال المخا بالساحل الغربي، وكانت المرة الأولى التي سيلتقي فيها زوجته ووالدته بعد فراق قسري دام عدة أشهر، وقبل أن يدير عجلة القيادة ضغط على زر تشغيل المسجل لسماع أغنية تضيف إلى تلك الأجواء الرائعة مزيدًا من البهجة.
قاد ياسر، البالغ من العمر حينها 30 عامًا، سيارته وسط الكثبان الرملية، وانطلق بروح مليئة بالفرح، لكن الأجواء السعيدة لم تدم طويلًا؛ إذ قذف انفجار هائل بسيارته في الهواء باعثًا سحابة من الغبار والدخان، لقد كان واحدًا من آلاف الألغام التي زرعتها مليشيا الحوثي قبل فرارها من مديريتي المخا والخوخة.
 
لحظات مرعبة 
 
قبل أن يستعيد وعيه، أدرك أنه غير قادر على تحريك جسده الذي انغرست فيه مئات الشظايا، كما تعرضت قدمه اليسرى لكسور متعددة، فيما مزقت شظية أخرى عينه اليمنى، وأفقدته لاحقًا القدرة على الرؤية.
يتحدث ياسر لوكالة "2 ديسمبر" الإخبارية: "كانت الدماء تتدفق من كل جانب من جسدي الذي بدأ يرتجف، كان مشهدًا مرعبًا، قلت لنفسي لابد أن صاروخًا دمر سيارتي، وقبل أن أعرف ما حدث دخلت في غيبوبة طويلة".
حينها، نقلته القوات المناهضة للمشروع الإيراني، إلى مستشفى المخا، ومنها إلى مدينة عدن لتلقّي العلاج، وخضع لـ15 عملية جراحية؛ لتنقية جسده من تلك الشظايا التي انغرست فيها. أما قدمه، فقد احتاجت إلى فترة أطول للتعافي.
يتابع ياسر، بحرقة وألم: "بعد مضي ثلاثة أشهر من العلاج، حدثت انتكاسة في وضعي الصحي، وأخبرني الطبيب المعالج أن الصفائح المعدنية التي وضِعت في ساقي لتجبير الكسور، أحدثت التهابًا عجيبًا لا يمكن الشفاء منه سوى ببتر قدمي".
بالنسبة له كان ذلك النبأ أسوأ من معرفته التعرض لانفجار لغم حوثي؛ إذ كانت لحظتها أعضاؤه مكتملة، أما الآن فإنه على وشك أن يخسر إحداها.
لكن الجانب المشرق في تلك المأساة هو أن الطبيب أبلغه مرة أخرى بإمكانية تفادي عملية البتر من خلال السفر إلى الخارج، وفي دولة متقدمة تمتلك إمكانيات طبية حديثة مقارنة بمستشفيات عدن الخارجة من حرب مليشيات الحوثي.
 
قرار السفر إلى الخارج
 
قرر ياسر السفر إلى الهند، وجمع كافة الأموال التي يمتلكها بما في ذلك ذهب زوجته ووالدته، وغادر البلاد ليستقر في ولاية بونا الهندية، ويبدأ رحلة علاج جديدة.
في إحدى مستشفيات الولاية الهندية، أخضع الأطباء ذلك الشاب إلى 16 عملية جراحية على مراحل لإزالة الأنسجة المتضررة، وتجبير الكسور، فيما احتاجت تلك الأعضاء عامًا كاملًا للشفاء.
خلال فترة المعالجة أنفق نحو 12 ألف دولار لاستعادة قدرته على السير؛ لكن الأموال التي يحتاجها لمواصلة العلاج انتهت دون تحقيق ذلك، وقرر العودة إلى البلاد، غير أن  شيئًا ما تغير؛ إذ علم مسؤول إماراتي يعمل ضمن قوات التحالف العربي في اليمن بمحنته، فأرسل له المساعدة المالية التي أتاحت له فرصة ثانية لاستكمال فترة العلاج واستعادة القدرة على السير.
 يصف ياسر تلك الواقعة باللحظات التي اختلطت فيها مشاعر كثيرة، "وكان السؤال الأبرز: كيف عرف ذلك المسؤول الإماراتي بمحنتي، لكن الموقف الإنساني كان يعبّر عن الأخوة العربية التي تجمع بيننا، كما هو تعبير واضح عن مدى التلاحم الذي كنا نشعر به في مواجهة عدو مشترك، بل لقد كان موقفًا في غاية الإنسانية".
ساهم ذلك المبلغ في استكمال العلاج إلى أن استعاد القدرة على السير، أما معالجة عينه فقد كانت الهند تفتقر إلى وجود مراكز متقدمة في مجال معالجة العيون ونصحه الأطباء بالسفر إلى روسيا.
يقول ياسر: "عندما قررت العودة، كنت لا أزال غير قادر على الرؤية والسفر إلى روسيا، سيحتاج إلى مبلغ مالي إضافي لا أستطيع جمعه"، فيما بدأت  المضاعفات تزداد لتجعل عينه أصغر من حجمها الطبيعي وتحتاج إلى زراعة شبكية مع ربط الأعصاب البصرية بعضها ببعض ليستعيد قدرته على الرؤية مجددًا.
منذ عودته من رحلة العلاج ومضي كل تلك السنوات، ما تزال ندوب الإصابات التي تعرض لها في انفجار اللغم الحوثي ظاهرة على وجهه، كما أن دوي الانفجار ما يزال صداه يتردد في ذهنه حتى اليوم، يفزعه من منامه، ولا يستطيع نسيان اللحظات الأكثر رعبًا في حياته.
يصف: "في أوقات كثيرة أصحو من النوم مفزوعًا، ما يزال مشهد الجريمة ماثلًا أمامي، أجد صعوبة في نسيان ما حدث والتخلص من وقع المشاهد الصادمة".

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية