اعتراف فرنسا بقتل بومنجل.. صمت رسمي واستياء شعبي
أحدثت "طريقة" الاعتراف الفرنسي بقتل المناضل الجزائري البارز علي بومنجل نقاشاً وتفاعلا كبيرين في الجزائر.
في الوقت الذي التزمت فيه السلطات الجزائرية الصمت إزاء الخطوة الفرنسية الجديدة تجاه ملف الذاكرة الشائك بين البلدين، أثارت "طريقة" الاعتراف سخطاً وغضباً شعبيين، وأجمعوا على اعتبارها "مناورة للالتفاف على مئات آلاف الجرائم التي ارتكبتها ضد ملايين الجزائريين".
وانتقدوا أيضاً في المقابل ما اعتبروه "تنازلاً من عائلة الشهيد بعد قبولها التنقل إلى الإليزيه مقابل سعي فرنسي لتسوية ملف جريمة قتل الزعيم الثوري علي بومنجل مع عائلته، وإبعاد الطرف الرسمي الجزائري" وفق تعليقاتهم.
اعتراف فرنسيوفي وقت متأخر من مساء أمس الثلاثاء، اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشكل رسمي بمسؤولية بلاده عن قتل الزعيم الثوري الجزائري علي بومنجل في 23 آذار/مارس 1957، وبأنه تعرض "للتعذيب والقتل" على أيدي جيش الاحتلال الفرنسي و"لم ينتحر" وفق الرواية الفرنسية القديمة التي حاولت التغطية الجريمة حينها.
وذكر بيان الإليزيه أن "ماكرون اعترف بأن المحامي والزعيم الوطني الجزائري علي بومنجل تعرض للتعذيب والقتل على أيدي الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير الجزائرية وأنه لم ينتحر كما حاولت باريس التغطية على الجريمة في حينه".
وأضاف أن "بومنجل اعتقله الجيش الفرنسي في خضم معركة الجزائر ووُضع في الحبس الانفرادي وتعرض للتعذيب ثم قُتل في 23 آذار/مارس 1957".
ووفق بيان الرئاسة الفرنسية فإن "ماكرون أدلى بنفسه بهذا الاعتراف باسم فرنسا وأمام أحفاد بومنجل الذين استقبلهم الثلاثاء، وذلك في إطار مبادرات أوصى بها المؤرخ بنجامين ستورا في تقريره حول ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر التي وضعت أوزارها في 1962 وما زالت حلقة مؤلمة للغاية في ذاكرة عائلات ملايين من الفرنسيين والجزائريين".
وأكد البيان على اعتراف الجنرال الفرنسي بول أوساريس، الذي يوصف بـ"السفاح"، حيث قر فيه بمسؤوليته عن قتل الشهيد علي بومنجل، وذكر بأنه "في العام 2000 اعترف بول أوساريس (وهو الرئيس السابق للاستخبارات الفرنسية في الجزائر العاصمة) بنفسه بأنه أمر أحد مرؤوسيه بقتله وإخفاء الجريمة على أنها انتحار".
وشدد إيمانويل ماكرون على أن بلاده "لا يمكنها التسامح أو التغطية على أي جريمة أو فظاعة ارتكبها أي كان خلال الحرب الجزائرية"، وتعهد في المقابل بالعمل على توسيع وتعميق كشف حقائق الماضي الاستعماري الفرنسي في الجزائر.
وأكد في هذا السياق أن هدف فرنسا هو "التمكن من المضي قدماً نحو التهدئة والمصالحة مع الجزائر وإلى إعادة النظر إلى التاريخ في وجهه، والاعتراف بحقيقة الوقائع من أجل مصالحة الذاكرة".
وعلي بومنجل واحد من أقدم المناضلين والحقوقيين الذين برزوا قبل اندلاع الثورة التحريرية الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي عام 1954، وكان من مؤسسي حزب "الاتحاد الديمقراطي للبيان" الذي تأسس عام 1946 من قبل الراحل فرحات عباس الذي كان أول رئيس للحكومة الجزائرية المؤقتة.
والشهر الماضي، تسلم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تقريرا من المؤرخ بنيامين ستورا تضمن 22 توصية حول "الذاكرة والحقيقة" خلال فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر من 1830 إلى 1962.
وكان من أبرز التوصيات، اعتراف فرنسا بمسؤوليتها عن قتل الزعيم الثوري علي بومنجل، وإحياء ذكرى مختلف الأحداث الرمزية لما تسميه فرنسا بـ"حرب الجزائر"، وكذا نشر "دليل مفقودين" من الجزائريين والأوروبيين، وإنشاء أرشيف مشترك بين البلدين.
"مساواة بين الضحية والجلاد"
واعتبر مراقبون أن الصمت الرسمي الجزائري إزاء الخطوة الفرنسية "ينسجم مع موقفها من تقرير بنيامين ستورا"، حينما اعتبرت بأنه "مخيب ويساوي بين الضحية والجلاد"، خصوصاً بعدما استبعد ماكرون اعتذار بلاده عن جرائم جيش الاحتلال الفرنسي التي ارتكبها في الجزائر، وحديثه عن "اكتفاء بخطوات رمزية".
وشدد عمار بلحيمر وزير الاتصال (الإعلام) والمتحدث الرسمي باسم الحكومة الجزائرية، على أن التقرير الفرنسي "يساوي بين الضحية والجلاد وجاء دون التوقعات ولم يكن موضوعياً وينكر مجمل الحقائق التاريخية" وفق تصريحات لوسائل إعلام محلية.
واعتبر الوزير الجزائري أن تقرير "ستورا" "يتجاهل المطالب المشروعة للجزائر وفي مقدمتها اعتراف فرنسا رسمياً بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية التي اقترفتها خلال احتلالها للجزائر"، وهو ما يعني رفضاً جزائرياً لكل ما ورد في التقرير الفرنسي وفق المتابعين.
استياء شعبي
رد فعل الشارع الجزائري تجاه الخطوة الفرنسية كان سريعاً ومتفقاً على ما وصفوه بـ"الاعتراف المبتور ومحاولة الالتفاف على محرقة فرنسية نفذت بأبشع الطرق والوسائل ضد شعب أعزل".
وتوحدت تعليقات وبروفايلات كثير من رواد مواقع التواصل بهاشتاق "المجد والخلود لشهدائنا الأبرار"، وانتقدوا في المقابل موافقة أحفاد الشهيد علي بومنجل على لقاء الرئيس الفرنسي، واعتبرت بعضها ذلك بـ"العار" وفق التعليقات التي رصدتها "العين الإخبارية".
وأكدت مجمل ردود أفعال الجزائريين على بطلان الرواية الفرنسية الأولى بأن بومنجل انتحر، مؤكدين بأن "من يهب حياته من أجل استقلال بلاده لا يمكنه الانتحار".
واعتبر جزائريون بأن الشهيد بومنجل كان ضحية واحدة من بين ملايين الشهداء، ودعوا باريس إلى الاعتراف بكل جرائمها التي ارتكبتها في الجزائر.
فيما وصفت تعليقات أخرى الاعتراف الفرنسي بـ"المنية على الجزائريين بهذه المآسي في وقت يوجد متحف للرؤوس المقطوعة الذي تحتفظ به فرنسا" وفق تعليق أحد الجزائريين، في إشارة إلى متحف "الإنسان" في باريس.
ويأتي الاعتراف الفرنسي في سياق إعادة إحياء ملف الذاكرة الشائك مع الجزائر، والذي شهد تقدماً نسبياً وفق المتابعين منذ تولي عبد المجيد تبون مقاليد الحكم بالجزائر وإيمانويل ماكرون في فرنسا.
غير أن متابعون للعلاقات بين البلدين، يرون بأن "مشوار حل ملف الذاكرة" يبقى طويلا في ظل إصرار كل طرف على مطلبه أو موقفه.
وتصر فرنسا على رفض الاعتذار عن جرائمها التي اقترفتها خلال فترة احتلالها للجزائر والتي قدرت دراسات تاريخية عدد ضحاياها بنحو 12 مليون جزائري، وتخشى في المقابل من تحرك مستعمراتها السابقة لتجريم احتلالها في المحاكم الدولية مقابل تعويضات مالية كبيرة، وتروج في المقابل لفكرة "المصالحة التاريخية".
ويحتفظ الطرف الجزائري بموقفه الذي يقول إنه "غير قابل للتنازل" في قضية استعادة الأرشيف المنهوب والاعتذار والتعويضات عن الجرائم والتجارب النووية، وتعتبرها "الحل الوحيد لبناء علاقات سليمة".
ويرى باحثون ومؤرخون جزائريون أن "الضغوط التي تمارس على الرئاسة الفرنسية من قبل لوبيات قوية تهدف إلى دحرجة الماضي الاستعماري إلى أجيال جديدة" لضمان ما تسميه "الجرائم التي تسقط بالتقادم" معولة في ذلك "على الأجيال الجديدة من الجزائريين".
خطوة مهمة وغير كافيةالمناضلة الجزائرية البارزة لويزة إغيل أحريز أثنت على الخطوة الفرنسية واعتبرتها "بداية خطوة مهمة نحو الاعتراف الأكبر، لكنها تبقى غير كافية".
والمناضلة "أحريز" صاحبة الـ85 عاماً التحقت بصفوف الثورة التحريرية الجزائرية عام 1954، وتعرضت لأنواع تعذيب شديدة بعد أن ألقي عليها القبض سنة 1957، وتم نقلها بين سجون بالجزائر وفرنسا، إلى أن تمكنت من الفرار في فبراير/شباط 1962.
وفي تصريح لـ"العين الإخبارية" قالت المناضلة الجزائرية: "الحمد لله بعد 59 عاماً من الاستقلال اعترفت فرنسا بجريمتها ضد الشهيد علي بومنجل، والذي كان من بين آلاف المجاهدين الذين ماتوا تحت التعذيب الوحشي".
وأضافت أنها "بداية نحو الاعتراف بكل الجرائم الاستعمارية، وهناك جرائم كبرى من بينها التجارب والتفجيرات النووية، والمجازر الجماعية والتعذيب الوحشي وغيرها، لأن جنرالات الاحتلال من كانوا يكتبون جرائمهم ضد الشعب الجزائري، ومع ذلك فإن الجرائم الفرنسية ضد الإنسانية لازالت حية طوال 132 سنة".
المناضلة "أحريز" دعت أيضا للاعتراف بواحدة من أبشع جرائم التنكيل والقتل التي كان ينفذها الاحتلال الفرنسي ضد الجزائريين والتي كانت تسمى "Le crevettes de Bigear" أو "جمبري الجنرال بيجار" والذي نفذ عدة مجازر بشعة وابتكر طرق تعذيب وحشية ضد الجزائريين، وذكرت بأن الاحتلال الفرنسي كان يربط أرجل الثوار ويرمونهم من الهليكوبتر في البحر.
محرقة
وشددت المناضلة على "ضرورة اعتراف واعتذار فرنسا عن كل ماضيها الاستعماري والتوقف عن اللعب والمناورة، وماكرون اعترف بنفسه بأن الاحتلال الفرنسي كان جرائم ضد الإنسانية ومحرقة حقيقية، لكنه تراجع فيما بعد، ومن عجائب القدر أن تنقل زوابع رملية إشعاعات التجارب النووية التي أجراها الاحتلال إلى الأراضي الفرنسية وهي إشارة كبيرة، والله كشف جرائمهم".
وختمت حديثها بـ"التعبير عن مشاعر الألم والصدمة الكبير والعميق التي لازالت تعاني منها من فترة الاحتلال"، وقالت إن "لازلنا نحن الذين بقينا على قيد الحياة نعيش حالة من العتاب والألم الكبيرين في قلوبنا، ولا يمكننا أن ننسى أو نسامح أو حتى نعيش بطريقة طبيعية مثل بقية الناس، إنها صدمة داخلية مزمنة نعيشها، ولا يمكن تجاوز أو تجاهل المجازر التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر، مشاهدها تمر على ذاكرتنا يومياً وتدخلنا في حالة تيهان طويلة".
مناورة ومساومة
محمد يحيى حزرلي (87 عاماً) أحد المناضلين السابقين بالثورة التحريرية ومختص في التاريخ الجزائري، رأى بأن الاعتراف الفرنسي "مجرد مناورة ومساومة لن تغير أي شيء من الحقائق".
وقال في حديث لـ"العين الإخبارية" إن "بيان الإليزيه يبقى اعترافاً غير كاف وذر للرماد في العيون لكونه جزء فقط من جرائم كثيرة لا تعد ولا تحصى، وهذا ما يعني بأن خطوة باريس هي مجرد مناورة لإيهام الرأي العام بأن هناك في فرنسا من يعترف بجرائمها، وكل المناورات السابقة لم تأت بأي جديد لها لأنها لازالت تفكر بنفس الطريقة الاستعمارية، وشهداء الجزائر لا يهمهم اعتراف فرنسا لأنهم حققوا الهدف وهو نيل الاستقلال".
واستطرد قائلاً: "فرنسا تراوغ دائما في ملف الذاكرة مع الجزائر وخطوة اعترافها تؤكد بأن تنتهج سياسة القطرة بالقطرة لتتفادى الاعتراف الكامل وحتى تبقى الجزائر تابعة لها، وهي خطوة تشبه الطُّعم التي لا يمكنها التغطية عن جرائم ارتكبت ضد الملايين".
واعتبر الباحث الجزائري بأن خطوة باريس "تهدف بالأساس إلى تقليص مطالب الجزائر، وإيهام الرأي العام بأن فرنسا بلد ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان".