مؤتمر باريس يضع ليبيا بين مقصلة الإخوان وخطر التقسيم
مبادرة باريس تحرق مراحل دون التوصل إلى تسوية دقيقة، وعناوين براقة لا تراعي الواقع الليبي المعقد.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة العرب اللندنية، لم تبتعد فرنسا يوما عن ليبيا. كان اهتمامها منصبّا على تأمين مصالحها في الجنوب، فجأة اكتشفت أن تأمين الجنوب يبدأ من الشمال والشرق والغرب، ومحاولة استرضاء الجميع معادلة صعبة في أي منطقة، فما بالنا بدولة مثل ليبيا تعج بالقوى المحلية والخارجية التي تتصارع لفرض السيطرة؟
وجاءت الدعوة لعقد مؤتمر خاص بالأزمة الليبية في باريس، اليوم الثلاثاء، ضمن محاولة تكريس حضور فرنسا السياسي في ليبيا. دعيت للمؤتمر غالبية الأطياف الليبية ودول ومنظمات كثيرة معنية بالأزمة. ولم يرفض هؤلاء الدعوة، على الرغم من الامتعاض الذي يحمله عدد كبير منهم للمؤتمر الفرنسي، والشكوك في أهدافه ونتائجه.
اعتراضات دولية
لم تستطع معظم الجهات الإعلان صراحة عن رفض المشاركة، واكتفت بتلميحات من خلال انخفاض مستوى التمثيل أو تقديم مبررات وتفسيرات لأسباب الحضور، لأن فرنسا وجهت الدعوة إلى دوائر متعددة ومتنافرة من الصعب أن تتفق على موقف قبل التوصل إلى تفاهمات مسبقة، أو امتلاك إرادة وقوة تفرضان نمطا معينا للتسوية.
تلوح في الأفق رغبة لدى باريس، مدعومة من تركيا وقطر والقوى الغربية التي ما زالت تنتصر للتيار الإسلامي، في العودة إلى سيناريو ما قبل سنة 2014
من وقفوا مع المؤتمر حرصوا على رفع مستوى التمثيل. لذلك فالإمعان في رفع المستوى (الجزائر- رئيس الوزراء) أو انخفاضه (مصر- رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب) يبين درجة قبول ورفض المبادرة الفرنسية الجديدة.
في ليبيا، توجد صراعات كثيرة ومتباينة، ولا تزال البلاد تفتقر إلى الإرادة والقوة معا. تنتشر فيها الميليشيات المسلحة التي يفوق نفوذها نفوذ مؤسسات رسمية عديدة. كما أن مقدمات المؤتمر تشي بتحوله إلى مؤتمر للعلاقات السياسية العامة، وليس لتحقيق اختراق حقيقي في الأزمة.
يتطلب النوع الأول احتفالا تُستدعى إليه جهات كثيرة، يصعب أن تلتقي في مكان واحد.
يوحي الحضور بوجود عملية سياسية منظمة، لكن هي في حقيقتها مستعجلة، تنم عن ارتباك أو رغبة في لملمة أمور قبل أن تستقر عند قوى مناوئة.
بعض الجهات تحضر اليوم وفي ذهنها حزمة مصالح متشابكة مع باريس، خارج نطاق الأزمة الليبية أو على هامشها. يتطلب تحقيق اختراق (النوع الثاني) استعدادات مختلفة، أهمها تهيئة البيئة لتقبّل ما يسفر عنه المؤتمر. كما أن تجربة فرنسا مع ليبيا مسكونة بالهواجس وتصب دائما في المربع السلبي.
ولن ينسى الليبيون أن تصورات وتصرفات باريس عام 2011 كانت سببا رئيسيا في ما وصلت إليه البلاد من تدهور.
لقيت المبادرة الفرنسية اعتراضات متفاوتة من جانب دول كثيرة معنية بالأزمة؛ فمثلا واشنطن التي تحضر المؤتمر بمستوى تمثيل منخفض، ترى أن باريس تجور على دورها وتختطف مهمة الأمم المتحدة وتختصر المجتمع الدولي في نفسها، لمجرد أن غسان سلامة، المبعوث الأممي يحمل الجنسية الفرنسية.
وتعتقد روما أن باريس تريد الحفاظ على مصالحها على حساب المصالح الإيطالية، ولا ترتاح للمؤتمر، لأنه يمكن أن يؤمّن مصالح فرنسا في الجنوب، لكنه قد يعيد التوتر للشمال، الذي يمثل أهمية فائقة بالنسبة إلى روما.
لدى القاهرة شعور بأن المؤتمر يجني ثمار الجهود المصرية المتواصلة في دعم المؤسسة العسكرية وتقريب المسافات بين القوى الليبية، ويمنح التيار الإسلامي قبلة جديدة تحكم تموضعه في ليبيا.
يخشى قطاع كبير من القوى السياسية أن تفضي المحاولة الجديدة إلى واقع أشد مرارة، يضع ليبيا بين خيار تحول التيار الإسلامي، ممثلا في جماعة الإخوان، إلى قوة رئيسية مرة أخرى، وبين تمهيد الطريق للدخول عمليا في سيناريو التقسيم، وتستحوذ فرنسا على إقليم فزان في الجنوب، وتحمي به جملة كبيرة من مصالحها الاسترايجية في المنطقة المجاورة.
بات خيار تعظيم مكاسب الإخوان في ليبيا هدفا لدى فرنسا والكثير من القوى الدولية والإقليمية، وظهرت ملامحه في تصريحات ولقاءات عقدت بين عناصره وقوى ليبية مختلفة، كان من الصعب الاجتماع بها من قبل، في محاولة خلق شبكة جديدة من المصالح تجمع بينها، وسط تشجيع من قبل باريس، وعبر قنوات مختلفة. ويعتبر مؤتمر داكار قبل أسبوعين علامة على التوجه المزدوج لفرنسا.
فرض الإخوان
تلوح في الأفق رغبة لدى باريس، مدعومة من تركيا وقطر والقوى الغربية التي ما زالت تنتصر للتيار الإسلامي، في العودة إلى سيناريو ما قبل 2014، وهي الفترة التي أحكمت فيها جماعة الإخوان قبضتها على جزء كبير من مفاصل القرار في ليبيا.
تعتقد هذه الدوائر أن عودة الإخوان إلى ليبيا يجب أن تتم بأي وسيلة. وهو ما يفسر أسباب التغيرات المفاجئة التي ظهرت تجلياتها في الرسائل السياسية التي أطلقتها قيادات الجماعة باتجاه المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي، وعقيلة صالح رئيس البرلمان، وقيادات محسوبة على نظام العقيد الراحل معمر القذافي حضرت مؤتمر داكار.
يغفل هؤلاء أن التعامل مع القوى الليبية قد يختلف عن التعامل مع غيرها في دول مجاورة؛ يصعب توقع ردات الفعل.
يمكن أن تتغير المواقف بين لحظة وأخرى؛ عقيلة صالح التقى خالد المشري، رئيس مجلس الدولة، المنتمي إلى جماعة الإخوان، وبدا عقيلة بعيدا عن حفتر، في أثناء مرضه مؤخرا.
تغيرت الأمور، وافترق عقيلة عن المشري. ثم عاد إلى مربع حفتر، وتناولا معا وجبة الإفطار الأحد الماضي. كذلك امتدح المشري الجيش الليبي وسحب تصريحه السابق الذي اتهمه فيه بأنه “غير شرعي”، ووصفه بالجيش الوطني، ثم عاد قبل مؤتمر باريس بيومين يعلن عدم اعترافه بقيادة حفتر. هكذا الحال بين غالبية القوى السياسية والمسلحة؛ هناك تبدل بين لحظة وأخرى في العلاقات، إذا وجد أي طرف أو من يدعمه ضرورة لذلك.
يتم الترتيب الآن لتهيئة المسرح أمام حصول الإخوان على جزء معتبر من الكعكة السياسية. ويجد سيناريو الإخوان دعما، أو على الأقل عدم ممانعة من دول المغرب العربي، ولا توجد غضاضة سياسية في التعامل معهم.
وترى دولة مثل الجزائر أن وجودهم في السلطة ضمانة للسيطرة على الجماعات الإرهابية في ليبيا، وعدم تسريبها إلى الأراضي الجزائرية، لأن الإخوان يعرفون كيف يتعاملون مع القاعدة وداعش والميليشيات ذات الصفة الإسلامية.
لدى مصر مشكلة كبيرة في تصدر الإخوان المشهد السياسي في ليبيا؛ تعتقد أن المبادرة الفرنسية يمكن أن تقود إلى ذلك، إذا تم التمسك بإجراء انتخابات قبل نهاية العام الجاري، دون القيام بخطوات تضمن إجراء انتخابات على درجة من النزاهة. بالتالي فالتعجيل بها في هذه الظروف ستترتب عليه تداعيات أشد قتامة.
تتساءل دوائر سياسية كثيرة قلقة من التصرفات الفرنسية الراهنة، ما هي الجهة المنوط بها الإشراف على الانتخابات؟ لا بد أن يتم تشكيل حكومة وفاق وطني تتولى هذه المسؤولية. هل هناك جهة أمنية تستطيع السيطرة على الأوضاع، في ظل رفض البعض لدور الجيش الوطني الليبي، بل يعملون على محاربته وتعطيل مهمة تنظيف درنة من الإرهابيين؟ ما هي الجهة التي تضمن تنفيذ نتائج الانتخابات، في ظروف التشتت الحالية؟ ماذا يحدث لو ترشّح حفتر ونجح في الرئاسة؟ ما هي النتائج التي يمكن أن تترتب على نجاح إحدى قيادات نظام القذافي؟ لذلك من الضروري الاستعداد جيدا لهذه الخطوة، لأن الاستعجال سيؤدي إلى عملية مشوهة تذكر بما حدث عام 2011 وتعيد شبحه بصورة أكثر سوادا.
ظرف غير مناسب للانتخابات
المثير أن القوى الرئيسية في ليبيا لا تميل إلى إجراء انتخابات في هذه الظروف؛ حفتر يريد الانتظار حتى يفرض الجيش الوطني كلمته ويدخل العاصمة طرابلس، ويتم إيجاد حل لمعضلة الميليشيات. فايز السراج، رئيس الحكومة، أول الخاسرين في هذه الانتخابات التي تفقده منصبه، الذي وصل إليه على جواد اتفاق الصخيرات. عقيلة صالح لن يضمن استمراره على رأس مجلس النواب. وخالد المشري يريد تعطيل الانتخابات حتى تتمكن جماعة الإخوان من تطوير تحالفاتها في الداخل، لضمان السيطرة على جزء كبير من الكعكة.
لماذا استعجلت فرنسا طرح مبادرة جديدة الآن، وهي التي لم تتمكن من تنفيذ مبادرتها السابقة، عندما جمعت بين حفتر والسراج في باريس العام الماضي؟
على ضوء معطيات متعددة يبقى خيار الانتخابات صعبَ الالتئام، خاصة وأن هناك جهات تستطيع تخريبه بسهولة، إذا صممت فرنسا أو غيرها على تنفيذه دون استعدادات جيدة.
لعل ضرب مقر مفوضية الانتخابات في طرابس مؤخرا، إشارة واضحة من الميليشيات لرفض إجراء الانتخابات التي من المفترض أن تنهي أسطورتها. كما أن البيان الذي أصدرته قوى عسكرية وميليشيات في غرب ليبيا، قبيل مؤتمر باريس، يعني أن هؤلاء يرفضون العملية السياسية بصيغتها الحالية، وبإمكانهم تخريبها.
المضي في طريق المبادرة الفرنسية، التي تحمل عناوين براقة، سيقود إلى تغليب خيار التقسيم، لأن التصورات الفرنسية في جوهرها تحرق مراحل دون أن تجتهد في التوصل إلى تسوية سياسية دقيقة، تراعي الواقع المعقد. وهو ما تنجم عنه زيادة حدة الاقتتال في ليبيا، والتأثير على جهود الجيش الوطني في السيطرة على الأوضاع في أماكن مختلفة، ووقف زحف الميليشيات المسلحة، وبالتالي فتح الباب على مصراعيه لسيناريو التقسيم.
لم يكن هذا الاحتمال مقبولا خلال السنوات الأولى التي تلت سقوط نظام القذافي، كي لا يحرج أو يفضح من وقفوا خلف عملية السقوط الكبير والتنكيل بالقذافي، الآن يمكن أن تقود التطورات غير الحكيمة إلى العودة إليه كخيار حتمي، يحقق مصالح قوى كبرى تريد الاستحواذ على مناطق بعينها، في وقت أوشك فيه المواطنون على الكفر بوحدة الدولة الليبية.