المعجزة تتحول إلى فقاعة: الاقتصاد في تركيا تحت رحمة السياسة
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يستعد للانتخابات بعملة غارقة وأزمة تضخم واحتقان سياسي وسط انهيارات متواصلة لليرة تنذر بأزمة نقدية من العيار الثقيل.
وكان الاقتصاد الطريق الذي قاد حزب العدالة والتنمية إلى تصدّر المشهد السياسي في تركيا، منذ سنة 2002، بعد أن أبعد الأتراك عن شبح الانقلابات العسكرية وفوضى الحكومات الائتلافية. لكن الوضع انقلب اليوم، فالدكتاتورية العسكرية حلت محلها دكتاتورية رئاسية، والمعجزة الاقتصادية تحولت إلى فشل يؤثر على المواطنين الأتراك كما على سلطة الرئيس رجب طيب أردوغان ويضيق الخناق على تطلعاته لتنفيذ رؤيته التي قد تبقيه في السلطة حتى العام 2029، إذا فاز في انتخابات عمل جاهدا على تقديم موعدها من 2019 إلى يونيو 2018، لكن يبدو أن الرياح تجري بما لا تشتهي سفن الرئيس التركي وتدفعه إلى الندم على تقديم موعد الرئاسيات. بحسب صحيفة العرب اللندنية.
يأتي تصريح نائب رئيس الوزراء التركي محمد شيمشك، بأن البنك المركزي التركي تأخر في رفع أسعار الفائدة، في سياق ما يبدو أنّه إقرار غير مباشر من الحكومة التركية بخطأ سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاقتصادية، الذي كان يعلن بشكل متكرر عن رفضه لرفع أسعار الفائدة، وتوصيفه نفسه بأنّه "عدوّ أسعار الفائدة"، ولطالما أثارت تصريحاته بشأن أسعار الفائدة القلق في أسواق المال.
بعد أيام من انهيار الليرة التركية، رفع البنك المركزي التركي معدل فائدة الإقراض لنافذة السيولة المتأخرة بثلاث نقاط، لتبلغ 16.5 بالمئة، بعد أن كانت 13.5 بالمئة.
ووصف مراقبون إقدام البنك المركزي على رفع سعر الفائدة على أنّه تحد لأردوغان ومحاولة لإظهار نوع من الاستقلالية في مسعى لاستعادة ثقة المستثمرين، بعد تزعزعها إثر تصريحات للرئيس التركي قال فيها إنه يتوقع أن يفرض المزيد من السيطرة على السياسات بعد انتخابات 24 يونيو 2018.
وبالرغم من التعافي الفوري، فإن العملة لم تعد إلى مستوياتها الطبيعية، بينما يشكك الخبراء في أن تستقر قيمة العملة أمام الدولار خصوصا مع تصريحات للرئيس التركي قال فيها إنه بعد قرار البنك المركزي بأنه سيتخذ إجراءات تهدف إلى استقرار السوق بعد الانتخابات، وهو ما يشير إلى استمرار نيته فرض قيود على البنك المركزي والعودة إلى خفض الفائدة.
فقدان المصداقية
بمجرد الإعلان عن الزيادة، حققت الليرة مكاسب طفيفة منذ صدور هذا القرار الذي يرتقي، وفق خبراء ومحللين، إلى مرتبة "التمرد"، بحكم أن أردوغان يسيطر على قرار البنك المركزي. لكن في الساعات الأولى من الخميس، استأنفت الليرة تراجعها، لتنخفض بنسبة 2 بالمئة إلى حوالي 4.7 ليرة مقابل الدولار.
وفي حين أن قرار البنك المركزي يبدو أنه قرار مناسب من الناحية الفنية، فإن تساؤلا ملحا يطفو حول مدى تحقيق الليرة لتعاف حقيقي. وتجيب على هذا التساؤل الكاتبة في موقع أحوال تركية جلدم أتاباي شانلي، وهي مديرة سابقة في مركز الدراسات الاستراتيجية لمؤسسة "أجيلي آند كو"، مشيرة إلى أن البنك المركزي التركي فقد مصداقيته في مكافحة ارتفاع معدل التضخم في تركيا منذ فترة طويلة، ويبدو حاليا أن التضخم سيصل إلى 15 بالمئة مع نهاية العام الجاري، مقابل حوالي 11 بالمئة في الوقت الراهن.
ويبلغ التضخم في تركيا ثلاثة أضعاف متوسط الأسواق الناشئة، ويبلغ أكثر من ضعف مستوى التضخم الذي يستهدفه البنك عند نسبة 5 بالمئة. ويعد فقدان المصداقية بالنسبة للبنك المركزي الذي يزعم استهداف التضخم واحدا من أسوأ الأشياء التي يمكن أن تحدث، حيث أن نظام إدارة التوقعات بالكامل التي يبتكرها البنك مبني على مدى تقبل الوكلاء الذين يعملون في الاقتصاد للمعلومات.
وكانت الليرة التركية فقدت قيمتها بالفعل بسبب الاختلالات الاقتصادية القوية في التضخم، وعجز الحساب الجاري والميزانية. ويمثل اعتماد القطاع الخاص الشديد على التمويل الخارجي بنسبة تصل إلى 30 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي مشاكل خطيرة أيضا.
ويعد توجه مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأميركي) نحو بيئة سعر فائدة أعلى، بالإضافة إلى المكاسب التالية لمؤشر الدولار القياسي، وبالطبع عائدات الخزانة الأميركية لمدة عشر سنوات، التي كسرت المستوى النفسي لنسبة الثلاثة بالمئة، كلها عوامل خارجية تغذي النزوح من عملات الأسواق الناشئة في جميع أنحاء العالم.
ومن ثم، فعند دمج العوامل المحلية والخارجية معا، فإن البنك المركزي التركي، مثله مثل أي بنك مركزي آخر في عالم الأسواق الناشئة، يجب عليه أن يكون قد اتخذ بالفعل إجراءات استباقية للدفاع عن العملة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن البنك المركزي لم يتخذ خطوات استباقية للدفاع عن الليرة. ومنذ بداية العام، كانت وتيرة انخفاض قيمة الليرة ملحوظة، وتجاوز الانخفاض جميع التراجعات التي تشهدها جميع الأسواق الناشئة الأخرى تقريبا، ماعدا ما تشهده العملة الأرجنتينية، حيث أن المشكلات الاقتصادية في الأرجنتين عميقة بالفعل إلى حد استثنائي.
وكشفت المقابلة التي أجراها أردوغان مع تلفزيون بلومبورغ، والتي قال خلالها إنه سيضطلع بدور أكثر فاعلية في السياسة النقدية بمجرد حصوله على المزيد من السلطات الرئاسية بعد الانتخابات المبكرة التي دعا إليها والمزمع إجراؤها في 24 يونيو المقبل، عن الأسباب الحقيقية وراء تقاعس البنك المركزي لأولئك الذين لا يتابعون تركيا بهذا الشكل الدقيق، أو يعتقدون أن لهجته الخطابية حقيقية.
وتدخل أردوغان في عملية صناعة القرار في البنك المركزي مرات كثيرة جدا خلال الأشهر الستة الماضية على الأقل، ليُزيد بذلك معارضته الواضحة لأسعار الفائدة المرتفعة. ويمتزج المنهج الذي ينتهجه أردوغان حاليا مع هشاشة الاقتصاد التركي والذي يسجل تضخما في خانة العشرات لإضعاف آثار رفع سعر الفائدة الحالي 300 نقطة أساس.
ومثل التأثير العكسي، فمن شأن هذه الارتفاعات في أسعار الفائدة، أن تعيد الليرة التركية إلى التداول بصورة أقوى من 4 ليرات للدولار، لكنها لديها حاليا قوة تعد موضع تساؤل للتعامل مع ضعف الليرة. وتصف جلدم أتاباي شانلي أن تردد البنك المركزي وسياسات العرقلة التي ينتهجها أردوغان حاليا بأنها مجهود ضائع كما كانت عندما تردد كل من البنك المركزي والحكومة في الأشهر التي تلت الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
وترى أنه مع احتمال فوز أردوغان بفترة رئاسة أخرى ذات سلطات موسعة بعد 24 يونيو المقبل، يصبح الخطر الرئيسي سياسيا لا فنيا. وهذا يعني بالطبع أن المستثمرين سيطلبون زيادة علاوات المخاطر للحفاظ على رأس مالهم في تركيا، والذي ستتم ترجمته إلى جولة أخرى من ارتفاعات أسعار الفائدة، قبل أو ربما بعد انتخابات 24 يونيو. وتتوقع شانلي أن تشهد أسعار الفائدة ارتفاعات أخرى.
أزمة مالية
أصدرت وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني تحذيرا بشأن مسعى أردوغان لتعزيز السيطرة على البنك المركزي، قائلة إن خطاب الرئيس قد يفرض المزيد من الضغوط على تصنيف الدين السيادي التركي.
وقالت فيتش إن "السياسة النقدية في تركيا تخضع منذ وقت طويل لقيود سياسية، لكن التهديد الواضح بكبح استقلالية البنك المركزي يزيد المخاطر التي تحدق بمناخ صناعة السياسات وفعاليتها".
الخبراء يشككون في استقرار قيمة العملة مع تأكيد أردوغان أنه سيتخذ إجراءات تهدف إلى استقرار السوق بعد الانتخابات
ويتوقع خبراء الاقتصاد والأسواق المالية في وكالة بلومبيرغ الأميركية تواصل الانهيارات التي تعاني منها الليرة التركية والتي لا تبشر بخروج قريب لها من هذا المأزق، بل على العكس من ذلك، فهي تنذر بدخول تركيا إلى نفق أزمة نقدية من العيار الثقيل لم تشهدها منذ سنوات.
وقال مدير الأسواق الناشئة في شركة الخدمات المصرفية تي دي سيكيوريتز في لندن كريستيان ماجيو "لا يوجد حد لما يمكن للأمر أن يؤول إليه، فهو يتحول إلى أزمة مالية". وأضاف أنه إذا بدأ التجار في تركيا بالبيع، فإن "الثقة ستنعدم".
شبح الماضي
تسبب الصراع حول استقلالية البنك المركزي ومستويات أسعار الفائدة في إضعاف العملة التركية وتعكير الأجواء، زيادة على ذلك تقف الإخفاقات الحاسمة في إجراء إصلاحات مؤسساتية في ما يتعلق بشفافية الحكم والمساءلة وحكم القانون ونزاهة القضاء وغيرها عائقا في طريق نمو الاقتصاد التركي وحماية الدولة الديمقراطية.
وتذكّر الأحداث التي تعيشها الساحة الاقتصادية والسياسية التركية اليوم بما حدث سنة 2001. في تلك الفترة كانت تركيا تمر بأزمة مالية نتيجة انهيار السوق المالي وتراجع قيمة الليرة، وسجلت بورصة إسطنبول هبوطا حادا، مما دفع البنك المركزي التركي إلى تعزيز الأسواق المالية بمبالغ كبيرة، تراوحت بين مليارين وثلاثة مليارات دولار، وبدأ الاقتصاد في الانكماش بنسبة 6 بالمئة في عام 2001.
وفشلت المساعي في إنقاذ الاقتصاد التركي وبعث إصلاحات جادة، ضمن أجواء مهدت لصعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا. واليوم يتكرر المشهد، فيما تستعد البلاد لإجراء الانتخابات الرئاسية.
وتلخص صحيفة "فاينانشال تايمز" المشهد بقولها إن تركيا تذهب إلى الانتخابات وفي جعبتها عملة غارقة وتضخم مضاعف بينما تكافح الشركات تحت سيف الديون الخارجية التي بلغت 300 مليار دولار، وتراجع ديمقراطي ملحوظ، وبات كل يوم يستقبل إشارة جديدة تدق ناقوس الخطر.
وأوضحت أن "الرئيس الذي اكتسب ثقته في السابق من الاقتصاد أصبح متعصبا وأكثر استبدادا من أي وقت مضى، بينما يحكم البلد حكم باستخدام قانون الطوارئ منذ الانقلاب العسكري الفاشل في صيف عام 2016".
وفي ظل الأزمة الحالية والارتباك في السياسة والاقتصاد، ومع فقدان العملة الوطنية لقيمتها أمام الدولار وزيادة التضخم، لا يبدو أن الرئيس التركي سيواصل السير نحو إحكام السيطرة المطلقة على الدولة التركية لغاية 2029، وحتى ولو حقق مبتغاه في الانتخابات الرئاسية التي قدم موعدها لشهر يونيو 2018، فإن فوزه سيغلب عليه طعم الخسارة.